أصوليات
كل مذهب ينغلق على نفسه، وينغلق به أتباعه على نصوص بعينها، لا يفارقونها، ويفهمونها فهماً حرفياً جامداً، سرعان ما يتحول إلى أصولية جامدة، أياً كان نوع النصوص التي ينغلق بها أصحاب المذهب، جاعلين منها نصوصاً أحادية البعد، لا تقبل إلا تأويلًا واحداً هو تأويلهم الذي يغدو ناتج احتكارهم للفهم والتفسير والتأويل في آن واحد. وهذا هو ما ينصرف إليه المعنى الحديث للأصولية، من حيث هي اصطلاح يقابل الأصل الأجنبي (Fundamentalism) في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية التي جعلت من «الأصولية» تمسكاً جامداً بأصول بعينها، دينية أو مدنية، يكتسب معنى ثباتاً في أفهام من يتبعون هذه النصوص، ويعملون بمقتضاها، ويحرصون كل الحرص على تثبيت معاني هذه النصوص، في دلالات وحيدة البعد، وذلك على نحو يقتضي تنصيب هؤلاء الأتباع، بنوع من العنف القمعي، نواباً عن هذه النصوص، ينطقون باسمها، أو ينطقون بما يغدو إياها، في تبادل المكانة والوظيفة. ولذلك تقترن أصوليتهم، في علاقتهم بهذه الأصول، بالعنف الذي سرعان ما يلجؤون إليه لو وجدوا من يخالفهم في فهم هذه الأصول وتأويلها.
وكما قلت، فإن الأصولية المدنية هي الوجه الآخر لهذه الأصولية الدينية، فالشيوعي الذي يتبنى المعاني التي حددها ستالين على سبيل المثال، هو شيوعي أصولي، جامد في فهم معتقده، غير مفارق المعاني التي حددها ستالين لهذه الفصول النصية الأصلية لماركس. شأنه في ذلك شأن البعثي المتعصب الذي يتحول كالناصري المتهيج إلى أصولي بهذا المعنى. ومن الأصولية الماركسية، تولد ما أطلق عليه اسم «الواقعية الاشتراكية». وكانت هذه الواقعية بحرفيتها وجمودها وبالاً على الأدب، خصوصاً بعد أن صاغها جوركي وجدانوف في مؤتمر الحزب الشيوعي سنة 1934. وما أكثر الجرائم التي ارتكبها وجدانوف في حق الأدباء باسم هذه الواقعية الاشتراكية! وذلك على النحو الذي استحق معه الرجل لقب «سفاح الثقافة». وكان ذلك نتيجة طبيعية للجرائم التي قام بها في حق الأدباء، ابتداء من منع كتبهم من النشر، وسجن بعضهم الثاني، ونفي بعضهم الأخير إلى أقاصي سيبيريا.
وقد استمرت سطوة الواقعية إلي وفاة ستالين الذي تغيرت أوضاع الحريات في الاتحاد السوفييتي القديم بعد وفاته، فأصدر إيليا إيرنبورج روايته «ذوبان الجليد» التي كان يقصد بها ذوبان الجمود الستاليني للأصولية. أما الدوائر الشيوعية الأوروبية التي كانت أكثر تحرراً بالفعل، فقد برز منها المفكر الفرنسي الشهير روجيه جارودي الذي أصدر كتابه الشهير «واقعية بلا ضفاف» الذي كان بمثابة هدم للواقعية الاشتراكية من جذورها، وإعلان نوع جديد من «الواقعية الأدبية» حقاً، لكن بلا أية صفة أصولية.