يواصل الإعلاميون والمحللون السياسيون دراسة ظواهر وفنون التواصل مع الجمهور في الحملات الانتخابية وما ينجم عنها من نجاح مفاجئ أو فشل غير متوقع، خاصة بعد أن دخلت عوامل واعتبارات جديدة في الاختيار، وتنوعت وسائل التواصل وتكنولوجيا التسويق والإقناع، فغدا الجمهور في حالات كثيرة صعب الاقتناع.. سهل الامتناع! ويهتم علماء السياسة اليوم بمصطلح «الثقافة الشعبية» والتي تتضمن «الممارسات والاتجاهات الرائجة والأذواق السائدة بين غالبية المجتمع، لاسيما الشباب، وتنعكس في الموسيقى والإعلام والأفلام والنكات وغيرها، وتعد مناقضة لمفهوم ثقافة النخبة التي طالما كان السياسيون جزءاً منها». وتضيف الدكتور فاطمة عبدالفتاح في عدد أبريل 2018 من دورية «الديمقراطية» الصادرة عن مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أن الرئيس الأميركي الحالي «دونالد ترامب»، قدم نموذجاً مختلفاً أعاد تعريف المصطلح، بما ينسجم تماماً مع قيم الثقافة الشعبية الأميركية، من حيث الإثارة والتعامل بشكل يشبه نجوم هوليود، بل إنه قدم مادة مسلية أقرب إلى عروض «تلفزيون الواقع»، وطرح معايير جديدة لما هو «مقبول رئاسياً»، وسيطرت شخصية ترامب على المسلسلات والأغاني والأفلام التي ظلت تردد جُملهُ الشهيرة، وتحاكي حركاته وطريقته في الملبس والكلام. ونجح الرئيس «ترامب» في جذب وسائل الإعلام، وبات يستحوذ على الشاشات دون ضغوط سياسية أو إنفاق. وقد توصلت دراسة قامت بها إحدى كليات جامعة «هارفارد» عن المائة يوم الأولى لعهده «أن ترامب استحوذ على 41% من إجمالي التغطية الإخبارية التي تم رصدها، وهو ما يرتفع ثلاثة أضعاف عن الرؤساء السابقين، كما أنه كان المتحدث الرئيسي في 65% منها مقابل 11% من مسؤولي إدارته». وتنتقل الدكتورة فاطمة عبدالفتاح نفسها، وهي مدرس الإعلام وتكنولوجيا الاتصال بجامعة الأهرام الكندية في مصر، إلى الحديث عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره «يمثل مثالاً واضحاً على النزعة الفردية في الحكم»، حيث شهدت السنوات الأخيرة «اتجاهاً متنامياً نحو تعزيز سلطاته الرئاسية، الأمر الذي تجلى في التعديلات الدستورية خلال أبريل 2017، الذي حول البلاد إلى النظام الرئاسي ومنح أردوغان صلاحيات عديدة منها التعيين والإقالة للقضاة، وفرض حالة الطوارئ، إصدار المراسيم». وتلاحظ الباحثة وجود مرحلتين متناقضتين لصورة أردوغان في الإعلام، كانت صورته الأولى إيجابية، روّج لها الإعلام التركي والعربي معاً، حيث أسهم هذا الأخير خاصة في بناء صورة أردوغان بحسبانه زعيماً إسلامياً شجاعاً ورجل دولة «صالحاً»، وكانت المشادة الكلامية وانسحابه من جلسة جمعته بالرئيس الإسرائيلي الراحل «شمعون بيريز» عام 2009 سبباً رئيساً في بناء صورة إيجابية له تركياً وإسلامياً. ولكن الصورة اهتزت منذ أحداث «ساحة تقسيم» في مايو 2013 بإسطنبول، والموقف التركي من تطورات «الربيع العربي»، وفيما عانت صورة أردوغان من الاضطراب في الخارج، «اتجه إلى فرض هيمنته على الإعلام المحلي وإخضاعه في سياسات جعلت من الإعلام التركي «أبواقاً حكومية» تروج لصورة القائد الأوحد، أو الزعيم الذي لا بديل له». ورافق ذلك عزل وإسكات الأصوات المعارضة والناقدة، فحتى يوليو 2017، تقول الباحثة «كانت تركيا قد أغلقت 4 وكالات أنباء و45 صحيفة و15 مجلة و16 قناة تلفزيونية و22 محطة إذاعية، و28 دار نشر مع مصادرة محتوياتهم». وإلى جانب المؤسسات الإعلامية الحكومية، 14 قناة تلفزيونية وعشر إذاعات و8 مواقع إنترنت وكذلك وكالة الأناضول الإخبارية، تلاحظ الدكتورة عبدالفتاح، «يمتلك مقربون من أردوغان مؤسسات إعلامية ضخمة في مقدمتها مجموعة «ترك ميديا» ومؤسستا «كاليون» و«تشاليك» ومجموعة الـ «بايراك» ومجموعة «جينار» الإعلامية التي تمتلك مجموعة من الصحف والقنوات والمواقع التي تروج لسياسات أردوغان وتدعم سيطرته ونفوذه، والتأكيد على دوره كـ «حامي» الأمة الإسلامية من الفوضى والديكتاتورية، كما شهدت تركيا موجة من حظر مواقع «تويتر وفيسبوك ويوتيوب». وهكذا حوصر الإعلام والنقد وساد الرأي الرسمي. وتلاحظ الباحثة شيوع ظاهرة تملك السياسيين في دول عدة.. لوسائل الإعلام! وتشير أولاً إلى رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، «سيلفيو بيرلسكوني». فالسياسي العجوز الذي تقلد رئاسة وزراء إيطاليا، ثلاث فترات انتهت آخرها عام 2011، «يُعد أكبر المستثمرين في المجال الإعلامي، حتى بات يمتلك مجموعة «ميديا سيت» للإعلام التي تضم أكبر ثلاث محطات تلفزيونية خاصة، فضلاً عن شركات الإعلان والدعاية والنشر». وتشير الباحثة كذلك إلى «أوكرانيا»، حيث يتجه السياسيون من رجال الأعمال الأثرياء إلى تملك وسائل الإعلام، وكذا الهند، «ذات التجربة من حيث امتلاك السياسيين لقنوات إعلامية خاصة يتم توظيفها في عمليات التسويق السياسي لملّاكها». وفي دولة كالهند وضعت صحيفة «بيل بوست» قائمة تبرز سبع قنوات تلفزيونية رائجة يمتلكها سياسيون، وعقّبت على ذلك بالقول «إن السياسيين، بدلاً من أن يدفعوا الأموال لوسائل الإعلام نظير نشر أخبار عنهم، قاموا بإنشاء قنواتهم الخاصة، ليأخذوا التحالف بين الإعلام والسياسة إلى مستوى جديد». ويدرس الباحث «على الرجّال» من جامعة «انسبروك» بالنمسا ظاهرة «شخصنة السلطة والجنوح نحو تعزيز الطابع الرئاسي للأنظمة» في نفس الدورية الأكاديمية. ويقف عندما يعتبره تناقضاً رئيسياً في النظام السياسي الأميركي. «حيث من ناحية تعد الولايات المتحدة نفسها كدولة مؤسسات قوية، ومن ناحية أخرى، ترسم هالة كبيرة حول دور الرئيس وصفاته وملامحه الشخصية»! ويضيف أن نموذج الانتخابات الأميركية هو «ذروة تكثيف دور الإعلام كآلة سياسية، وهي تعمل في ظل دولة تعد النموذج الأكبر للرأسمالية، وفي نفس الوقت ذات نظام رئاسي». وقد يتساءل المراقب، من يقود أميركا الرئيس، أم الشركات، أم المؤسسات السياسية أو الإرادة الشعبية؟! تعتمد الحملة الشعبوية الأميركية الحالية بشكل خاص، على تحصين الحدود الجنوبية وتقليص الهجرة غير القانونية وحتى القانونية قدر المستطاع، وإن استلزم الأمر بناء سور حصين جنوبي البلاد. ويتداول بعض الأميركيين طرفة ساخرة تتساءل:- لماذا حارب «الهنودُ الحمر» المهاجرين الأوائل؟ لأنهم دخلوا أميركا بطرق غير قانونية!