الديمقراطية.. بالأفراد أم المؤسسات؟
من يقود المجتمعات المعاصرة اليوم: الناخبون أم المؤسسات أم الرؤساء؟ ولماذا تهمل بعض الشعوب دورها السياسي ومشاركتها في الانتخابات، وتنحرف أو تجمد بعض المؤسسات التشريعية والرقابية؟ ولماذا تخرج ديكتاتورية بعض رؤساء الجمهوريات والحكومات الديمقراطية من الباب.. كي تعود من الشباك؟!
لماذا برزت بعض القيادات، كما في تركيا وروسيا وحتى أميركا، على حساب المؤسسات الحزبية والدستورية، فتقلصت مثلاً أحلام الروس والأتراك وبات أعضاء الحزب «الجمهوري» في الولايات المتحدة يضربون أخماساً بأسداس؟
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة د. علي الدين هلال، أبدى بعض الملاحظات حول ظاهرة ازدياد دور الأشخاص والقيادات في العملية السياسية داخل النظم الديمقراطية الليبرالية، وهي ظاهرة تعاظم دور الرئيس، حتى باتت تسمى في العلوم السياسية «Presidentialism»، بما يفهم منه أن الرئيس هو «الكل بالكل»! فهل هذا هو مصير الديمقراطية في كل مكان، بعد ذاك التفاؤل وتلك الأماني الخضراء، منذ انتهاء الحرب الباردة سنة 1990، وما سمي بانتصار الديمقراطية الليبرالية؟
إن تطور إدارة الدول والممالك من «الأبطال» إلى «المؤسسات» معروف للجميع. واشتهر المفكر الأسكتلندي «توماس كارلايل» - ت 1881 - بكتابه «الأبطال» الذي قدم فيه نماذج متنوعة شملت السياسيين وغيرهم، وكان «كارلايل» يعتبر التاريخ نفسه من صنع الأبطال، وأن تاريخ ما أنجزه البشر هو في جوهره تاريخ عظماء الرجال، ممن «قادوا مجتمعاتهم نحو حياة أفضل وأكثر عدلاً، وارتقوا بجموع العامة التي ما كان يمكن لها أن تفعل ذلك من دون القدوة والقيادة، وأن البطولة هي نعمة من عند الله، وأن الأبطال هم أكثر الناس إيماناً، وهم الأرواح والعقول الأكثر طهارة وتميزاً وذكاء». وهو بالطبع تصور مثالي للزعامة والبطولة، ظهر في القرن التاسع عشر، حيث تعرض المثال فيما بعد لانتقادات حادة في القرن العشرين، يقول د. هلال: «خاصة بعد بروز الدور غير الإنساني وغير الأخلاقي للقادة في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية والاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، والجرائم الوحشية التي ارتكبتها هذه النظم».. وأدى انتصار الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية إلى زيادة الاهتمام بدور الأحزاب والمجالس التشريعية والانتخابات، وسادت فكرة أن الأفراد هم «إفراز اجتماعي»، «دورية الديمقراطية، 70، أبريل 2018، ص 25».
صوّت الإنجليز بعد الحرب، بعكس المتوقع، لمصلحة حزب «العمال» الذي قدم برنامجاً اجتماعياً واقتصادياً لإعادة البناء، وكان زعيم الإنجليز في الحرب «ونستون تشرشل» ضحية هذه الانتخابات، بعكس الولايات المتحدة، حيث صوت الأميركيون لمصلحة «دوايت ايزنهاور»، الجنرال الذي قاد جنود الحلفاء إلى النصر، وسرعان ما ازداد الاهتمام في أميركا وغيرها بالسمات الشخصية للسياسيين.
ومن المهم في اعتقاد د. هلال التمييز بين ازدياد دور الأفراد وسماتهم الشخصية «في إطار الدستور والقواعد المعمول بها في النظم الديمقراطية».. وبين «التماهي بين الزعيم والنظام والدولة»، فتصبح مخالفته في الرأي تهديداً للنظام وخيانة للدولة.
وطرأ على الحياة الانتخابية بعد الحرب عامل جديد أجّج معارك وتنافس المرشحين، وهو التلفاز، وبخاصة البث الملون بعد 1954. وكان ايزنهاور، كما لاحظ بعض المراسلين الأجانب وبينهم محمد حسنين هيكل ممن غطوا الانتخابات الرئاسية عام 1952، «يضع بعض المساحيق لإخفاء تجاعيد وجهه، ولكي يبدو أكثر شباباً وحيوية». وهكذا أصبحت «الصورة» هي البطل، و«الشخص» هو النجم ومركز الاهتمام. وازداد مع الوقت في الحملات الانتخابية الأوروبية كذلك، يقول د. هلال، بأن الظهور الجيد على الشاشة هو الطريق للفوز بالانتخابات، وأنه مورد سياسي لا يقدر بثمن، وأن أهمية الاجتماعات الحزبية واللقاءات الشعبية قد تغيرت، فلم تعد ذات أهمية في حد ذاتها، وأدى اكتساح ثورة الاتصالات اليوم إلى ازدياد شعور الأفراد بذواتهم ووزنهم، مع ازدياد التشابه بين الأحزاب في البرامج والسياسات وعدم تبنيها للقضايا والأفكار الجديدة وسيطرة أقلية من السياسيين والمحترفين على إدارة شؤونها وتراجع الثقة في نزاهة المرشحين ومدى تعبيرهم عن الصالح العام.
وغدا تسليط الضوء على المرشحين الأشخاص بؤرة الاهتمام وبوصلة الحركة السياسية لا برامج الأحزاب، «وأصبحت المشاهدة والفرجة على المشرح الرئاسي بنفس قدر أهمية معرفة أفكاره وربما تزيد».
فحملة الرئيس «أوباما» الأولى في أميركا عام 2008 ركزت على تقديم صورته باعتباره «الشخص المخلص الملهم الذي ينظر إليه الأميركيون على أنه طوق النجاة من الوضع المتردي، وركزت حملة الرئيس «ترامب» في انتخابات 2016 على صورة الرجل العصامي الناجح الذي غاص في أعماق الحياة الأميركية وعرف دروبها وأسرارها، وكيفية النجاح فيها، وأن الشخص الذي استطاع أن يعقد أفضل الصفقات ويحقق أرباحاً هائلة منها، - فهو إذن - قادر على اتخاذ القرارات الجريئة التي تحقق الانتعاشة للاقتصاد الأميركي وللفئات المهمشة فيها».
ولم يكترث الناخبون أن المرشح لم يتول أي منصب تنفيذي أو تشريعي في حياته، ولم يمر عبر قنوات الحزب «الجمهوري»، ومع ذلك هزم منافسته صاحبة الخبرة والدراسة هيلاري كلينتون.
وتكرر المشهد نفسه في فرنسا، فقد استطاع «إيمانويل ماكرون» الذي أسس حزباً سياسياً جديداً باسم «حركة إلى الأمام»، أن يحصل على الأصوات التي أوصلته إلى قصر الإليزيه وأن يفوز حزبه بأغلبية أعضاء الجمعية الوطنية. «فهناك إذاً تصاعد مستمر لدور القادة في النظم الديمقراطية الراسخة، ولحقها تطور مماثل في نظم الديمقراطية الجديدة أو الناشئة. وعلى سبيل المثال فقد برز دور الأفراد في النظم الديمقراطية التي نشأت على أنقاض النظم الشيوعية في دول شرق أوروبا. لقد ازداد دور العوامل الشخصية في السياسة، ليس فقط على مستوى السياسيين، وإنما أيضاً على مستوى الناخبين الذين ازداد اهتمامهم بصورة المرشح، وما يتركه من آثار وانطباعات لدى المشاهد لشاشات التلفاز».