عالمات خالدات
من ملكة سبأ التي جادلت سليمان بالحكمة، مروراً بفاطمة الفهرية التي بنت جامع القرويين بفاس، وشهرزاد التي روت قصصها في ألف ليلة وليلة، و«قرة عين» التي وصفها الوردي بأنها ملكت أعظم الصفات الشخصية من عقل وثقافة وخطابة وجمال، وانتهاءً بـ«جان دارك» وصولا إلى نساء القرن الخالدات.. يتحفنا تاريخ المرأة بأسماء كبيرة في عالم الثقافة والعلم.
وممن لفتن نظري في بحث وقفت عليه مؤخراً حول نساء عالمات شققن الطريق إلى أعظم الكشوفات العلمية:
روزاليند فرانكلين التي وصلت للكشف عن الكود الوراثي (DNA) بوساطة تقنية الأشعة السينية مما كلفها حياتها فماتت بسرطان الثدي في سن الـ37. ونعلم أن عملها تعرض للسرقة، حيث تقدم به الثنائي جيمس واتسون وفرانسيس كريك لنيل جائزة نوبل.
ودوروثي كروفوت هودجكن البريطانية التي وصلت لمعرفة تركيب الأنسولين الذي قامت بدراسته لمدة 35 سنة والفيتامين (ب12) الذي اشتغلت عليه لمدة سبع سنوات، وكان نقصه يقود إلى فاقة الدم الخبيثة القاتلة، ولم يمنعها الروماتيزم الخبيث الذي شوه يديها من متابعة عملها، فوصلت إلى معرفة تركيب الكوليسترول المركب الأساسي للهرومونات الجنسية، والفيتامين (د) المسؤول عن كساح العظام عند الأطفال، وفي النهاية تم الاعتراف بها فمنحت جائزة نوبل للكيمياء عام 1964 وكانت المرأة الثالثة في تاريخ الجائزة، ووصلت في خاتمة حياتها إلى رئاسة «اتحاد العلماء» عام 1975 وأمضت بقية حياتها تكافح ضد التسلح النووي لتودع العالم عام 1994.
وباربارا مك كلينتوك التي وصلت لفك سحر الجينات ومفهوم الطفرة في تغيير الخلائق مما صرف النظر تماماً عن ثبات الكائنات.
وهناك عالمتان أخريان هما اليزابيث بلاك بورن وكارول جرايدر اللتان كشفتا سر الحياة والموت، وأنه في نهاية الكرموسوم من خلال انزيم التيلوميريز.
ومن الجميل أن نفتح صفحة باربارا مك كلينتوك لمعرفة أثر المرأة في العلم وكفاحها لأخذ مكانها في مجال طالما كان حكراً على الذكور. لقد كانت ثالثة ثلاثة من رواد علم الوراثة، بجانب جريجوري مندل وتوماس هانت مورجان، إذ وضع الأول قوانين الوراثة الثلاثة عام 1865، واستطاع الثاني أن يربط مادياً بين الصفات الوراثية والكروموسومات، لكن فكرة مك كلينتوك كانت عن حركة الجينات التي تقفز من مكانها، فتغير صفات المخلوق، أي ما يعرف بـ«الطفرة»، مما أتاح فهماً أوضح لنظرية التطور ومثّل أعظم إنجازات القرن. وبقيت مك كلينتوك تمارس نشاطها العلمي لسن التسعين، وكانت ظاهرة إبداعية؛ تشك كثيراً وتتنبأ أكثر، وقد وضعت قوانين الجينات تحت وابل من الأسئلة المتشككة، واعتبرت أن الوراثة مازالت حافلة بالأسرار. كانت تقول عن الجينات إنها لا تجلس متجمدة كتلاً ثابتة كحبات اللؤلؤ في جيد حسناء، بل تتزحزح من أماكنها بين وقت وآخر وبطريقة عشوائية مجهولة، وبذلك تحدت المسلَّمة الرئيسية حول ثبات الجينات.
كانت مك كلينتوك راديكالية، لا ترتاح للمجاملات في العمل العلمي، وترفض الانسياق للمناخ العام. وقد بقيت أفكارها حول الطفرة محل غموض واستغراب داخل الوسط العلمي، حتى عام 1961 حين تقدم العالمان فرانسوا جاكوب وجاك مونود بنموذج جديد حول توجيه الجينات عند البكتيريا، في شبه كبير لطرح مك كلينتوك حول نظام الطفرة، وبعد أربع سنوات، أي في عام 1965، نال الاثنان جائزة نوبل عن طروحتهما. وفي عام 1983، قبل موتها بتسع سنوات (وكانت في عمرها 81 عاماً) منحت متفردةً، وللمرة الأولى في تاريخ النساء، جائزة نوبل للطب، عن عمل كانت قد نشرته قبل 36 سنة، أي في عام 1947. واليوم تعتبر مك كلينتوك، بجانب مندل ومورغان هنت، أحد مؤسسي علم الوراثة.