مآلات المتطرفين
أتيحت لي فرصة في الأيام الماضية أن أستعرض مع أكثر من شخص عرفتهم قديماً والتقيت بهم مؤخراً مآلات أكثر من ثلاثين إنساناً كانوا قد قضوا منذ العام 1993 سنوات في السجون بتهم ذات علاقة باعتناق أفكار عنيفة «جهادية» أو تورطوا في علاقات أو تمويل أو تخطيط، أو سلموا أنفسهم أو قبض عليهم بعد عودتهم من أماكن الصراع في سوريا والعراق وأفغانستان. على مدى خمس وعشرين سنة، أربع مجموعات مرت على السجون: منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي ثم في نهاية 2001 وفي 2003، ثم في 2006، وكان أخطر هذه القضايا هي الانخراط عملياً في تأسيس تنظيم مسلح في المملكة، والمواجهة المسلحة لقوات الأمن، ومنهم من شارك في دعم محاولات اغتيال لمسؤولين في الدولة، وآخرون تورطوا في جمع أموال لـ«القاعدة»، بعض منهم قد حظوا في البداية ببعض الأحكام المخففة، ولكن بعد تشكيل لجنة القضاة التي تنظر في قضاياهم أكثر من مرة كانت الأحكام تزداد قسوة.
مجموعة منهم أفرج عنها قبل نهاية القرن الميلادي الماضي، منهم ثلاثة تقريباً عادوا مرة أخرى إلى السجون بعدما تورطوا بدعم وجمع أموال من أجل «الجهاد في أرض الرافدين» أو انزلقوا في دعم مالي أو تستر وإيواء لأشخاص كانوا يخططون لاستهداف الأمن في المملكة. ثلاثة منهم حرموا أبناءهم من حنانهم ورعايتهم، منذ كانوا صغاراً دون العاشرة، الآن كبر أبناؤهم وبناتهم وتخرجوا من الجامعات، اثنان منهم تزوجت أكثر من واحدة من بناتهم وهم في السجون. يمكن القول إن واحداً منهم على الأقل فارق عائلته وأطفاله صغار وهو الآن جدٌّ، وهم الآن آباء وأمهات.
أما غالبية الذين أفرج عنهم وبقوا في منأى عن أي شكوك، فقد عاشوا حياتهم. غالبيتهم في الأساس من ذوي القدرات العقلية المتواضعة، والتعليم المتدني، أصبحوا إما موظفين عاديين، بعد أن عادوا إلى وظائفهم الأولى، أو أن الحكومة ساعدتهم في توفير وظائف تضمن لهم ولعوائلهم دخلاً شهرياً معقولاً. آخرون اتجهوا إلى أعمال تجارية صغيرة، غالبهم أفلس والقليل منهم يترنح، ومنهم أفراد لا يزيدون عن عدد أصابع اليد الواحدة لهم أعمالهم الخاصة، بل أصبحوا تجاراً وأثرياء، واثنان منهم الآن موقوفون في السجن بتهم تتعلق بالاحتيال، وربما شبهة غسيل الأموال. أما أحدهم وهو أكثرهم غرابة فقد امتهن الرقية الشرعية، وهي مصدر دخله.
أحدهم قضى قرابة ثلاثة عشر عاماً لتسهيله تهريب واحد استخدم مضاداً للطائرات ضد قاعدة عسكرية جنوب الرياض، دخل السجن وهو ابن 20 عاماً، وبعد الإفراج عنه، كان مفعماً بالحياة، كل أحبابه كانوا يعدونه لحياة أكثر جمالاً وسلاماً، على حين غفلة التفت حوله مجموعة منقسمة بين «داعش» و«القاعدة»، وفي الأخير خطفت قلبه «النصرة»، وبعد أقل من سنة، فرّ براً عبر الحدود الأردنية، راجلاً ومتخفياً في مستنقعات مائية لأكثر من ثلاثة أيام، وأعين حرس الحدود الأردني تترصده في كل شبر، ولكنه نجح أخيراً، واستقر مع «النصرة» وتزوج من فتاة سورية، وقتل بعد أقل من شهرين في مواجهة مع تنظيم «داعش»!
يتراءى الآن لي خياله طفلاً دون العاشرة، ذكياً، واثقاً ومضيافاً حين لا يكون والده وأعمامه في استقبال الضيوف. في زيارات عائلته له وهو في السجن كان يتحسّر على شبابه المهدور بين جدران السجن، كان يكرر في كل مرة أنه لن يعود ويؤكد بمرارة لوالديه: «قلبي طلع»، فمتى أبني أسرة ومتى يكون لي أبناء!
لمَ كل ذلك؟ لمَ اختاروا أن يكرروا جرائمهم وأخطاءهم القاتلة مرتين أو ثلاثاً؟!
يا حسرة على الشباب!