في كل بلدان العالم هنالك نُخبٌ تساعد الدول على التفكير للارتقاء بحياة المجتمع، وتقديم الرؤى الجديدة الهادفة لحسن استغلال الموارد، وحسن صرف الميزانيات، واقتراح الخطط والمشاريع الهادفة لرخاء المجتمع، وزيادة سعادته. وفي الدول المتحضرة، نادراً تتم مناصبة هذه النخب العداء، أو التشكيك في نواياها وأفعالها، حتى وإن خالفت نوايا وأفكار الساسة والسياسات الرسمية، لذا، فإن الحضارة الأوروبية لم تقم إلا على أكتاف العلماء والمفكرين والفلاسفة والمبدعين في كثير من أوجه الحياة. وهؤلاء هم من ساهم في وضع الدساتير الحديثة، وسنّ القوانين التي تحفظ كرامة الإنسان وتضمن حقوقه. في المنطقة العربية، ظلت النخب تتأرجح بين الاستقلالية وعدمها، وكان نصيب «المستقلين» في كثير من الحالات الإقصاء والنبذ، بينما حظيت فئة المثقفين «الموالية» بنصيب جيد من أسباب الحياة والرفاه، وحدث أن عاش كثيرٌ من «المستقلين» حياة صعبة وضنكة حتى الممات، بل إن بعضهم تجاهلت بلدانه تكريمه، رغم عطاءات السنين التي قدَّمها في مجال تخصصه، مبدعاً أو مفكراً أو داعياً لتطور مجتمعه. وفي كثير من البلاد العربية نجد بعض الحكومات متمسكة بمجموعة من المثقفين «الموالين» الذين ظلوا «يُبشرون» بدولة العدل والتنمية، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق. وصار أن انفصلت هذه الفئة عن هموم المجتمع وتطلعاته، وحافظت على مكانتها ومصالحها مع السلطة الرسمية. النخب في منطقة الخليج لا تختلف كثيراً عن نظيراتها في البلاد العربية، فالمفكرون والكتاب والمبدعون فريقان: الأول يعيش في دائرة «الاغتراب» داخل مجتمعه، يعاني تجاهلاً واضحاً من وسائل الإعلام لإنتاجه الأدبي والعلمي، في الوقت الذي تفتح تلك الوسائل أبوابها لمثقفين ومفكرين آخرين، ولربما للفنانين وصانعي كلام التسلية. كما تحاذر المؤسسات الثقافية في بعض البلدان طباعة أو اقتناء إنتاج هذا الفريق، بل ولا تتم دعوته لكثير من الفعاليات التي تقيمها هذه المؤسسات، كما أن هناك العديد من المفكرين والمبدعين الخليجيين تم انتقادهم، وهم يؤدون أدوراً تنويرية في شكل محاضرات أو مسرحيات هادفة وغير مبتذلة! وبعضهم إعلاميون قد قالوا كلمة الحقيقة ربما قبل أن تنضج العقول أو تتسع الصدور، فتم إقصاؤهم دونما مبرر. الإشكالية أن أصحاب هذا الفريق هم أكثر علماً وتأهيلاً وعمقاً وأهلية لبحث الشأن العام وتقديم مقترحات الحلول للمشكلات التي يعانيها المجتمع. بل إن «الحساسية المفرطة» تجاه الأفكار التي يطرحها أصحاب هذا الفريق قد أوجدت رؤية ضبابية والتباساً، كان مؤداهُ التخلص من أعضاء هذا الفريق، واتهامه بعدم الوطنية! وأعتقد بأن هذه رؤية تحتاج إلى إيضاح وإجلاء، مع تطور نظم الإدارة في المنطقة، وظهور ملامح التحضر في عملية اتخاذ القرار، ونضوج الأفكار بحكم توافر المعلومات وتطور وسائل الإعلام. أما الفريق الثاني الذي يستخدم إبداعه وأفكاره لربط نفسه بشخصيات لها دور مؤثر في إدارة الأحداث، فله نظرته الخاصة لموضوع نُبل وعمق الأمانة العلمية والأدبية، وغالباً ما يكتب ما هو متوقع منه. هذا الفريق يحظى بترحاب وحفاوة كبيرين، وكثيراً ما يتبوأ أصحابه مناصب قيادية. من الخطورة بمكان تعويد المجتمع على ثقافة «حرق المراحل»، فهي تُضيّع الحقيقة، وتحدُّ من الإبداع والإنتاجية، وتُشتت الجهود، وقد يقوم البعض بـ«خرق» السفينة دونما اهتمام أو اكتراث. نحتاج –في الوطن العربي- إلى مبادرات حقيقية لوضع أجنحة النخب على مسافات متقاربة ومتساوية، وبذلك نحافظ على روح المواطنة بكل أمانة وعدل.