مفارقة عربية.. شرقية!
شاهدتُ مقطعاً تلفزيونياً لرجل عربي يتحدث عن الأسباب التي جعلت بعض دول آسيا ناهضة وقوية، وذات اقتصاد ثابت وإنتاجية مثيرة، وقارنها بالدول العربية، في حالة من الاستياء واليأس مما وصلت إليه الأمور في هذه الدول. ومما قاله: إننا في عام 1960 كنا أفضل من كوريا الجنوبية، وفي عام 1970 كنا أفضل من سنغافورة، وفي عام 1980 كنا أفضل من ماليزيا، وفي عام 2000 كنا أفضل من تركيا. وعزا تطور تلك الدول إلى سبب واحد وحاسم وهو «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»! وتنبأ بأننا لو لم نغيّر أساليب حياتنا وإدارتنا فإننا نسير نحو السقوط والانهيار «انتهى».
وإذا ما أردنا توضيح التجربة الماليزية التي قادها محاضر محمد، رئيس الوزراء السابق، فإننا نشهد بأنه قد حوّل تلك الدولة الفقيرة والمتخلفة إلى «نمر» يوازي النمر الياباني، وكانت فلسفة الرجل تقوم على التحول من الاعتماد على الزراعة إلى الصناعة، وإيجاد التناغم السكاني بين 24 مليون نسمة، بكل اختلافاتهم العرقية (الملايو 58%، الصينيون 24%، الهنود 7%). وقد استفاد محاضر محمد من التجربة اليابانية إلى حد كبير، وأصبحت اليابان من الداعمين الأساسيين للتجربة الماليزية. واعتمدت سياسة محاضر محمد على تدريب الشباب والاعتماد على التكنولوجيا الجديدة، ووفر للماليزيين أدوات التكنولوجيا الحديثة، وكان من نتيجة سياساته العاقلة أن انخفض عدد من هم تحت خط الفقر من 52% في عام 1970 إلى 5% في عام 2002! وارتفع دخل المواطن من 1247 دولاراً في عام 1970 إلى 8862 دولاراً في عام 2002. وكانت سياسته قد اعتمدت على تحديث التعليم والتعليم الإثرائي والتدريب العملي على الصناعات، وكانت الفصول الدراسية التي رُبطت بشبكة الإنترنت قد وصلت إلى 90% في عام 1999. وخصصت الحكومة الماليزية 21,7% من الناتج للإنفاق على التعليم.
أما ما يخصُّ سنغافورة، فقد أعلن «لي كوان يو» في أول خطاب له بعد الاستقلال، أن دولته ستعتمد مبادئ الحرية والعدالة، وتسعى لخير شعبها وسعادته في مجتمع أكثر عدالة ومساواة. وأنشأ بعد ذلك هيئة للتنمية الاقتصادية، واستطاع جذب الاستثمارات إلى تلك الدولة الصغيرة التي استقلت عن دول الكومنولث في عام 1963. وأنشأت سنغافورة أهم مصافي البترول في العالم، وصارت ثالث دولة في تكريره بعد مصافي «نوتردام» و«هيوستن». كما أصبحت أيضاً من أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم. وكان من أهم مقولات الرئيس السنغافوري أن: «الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فيه عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جداً، واهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم».
بودي لو قرأ المخططون والمستشارون الذين يحيطون بالزعماء العرب التجربتين الماليزية والسنغافورية! فحتماً سيجدون مخارج ناجعة للمعضلات التي كبلت العالم العربي، وجعلته في ذيل قائمة الإنتاج والعدالة والمشاركة والديموقراطية. وفي هذا العالم ثروات هائلة، قد لا تصلها ثروات ماليزيا أو سنغافورة، ولكن حسن اختيار الأفراد وقادة المجتمع هي التي أهّلت الدولتين المذكورتين، تماماً كما هو إصرار القائدين في كلا البلدين، على تحقيق الإنجاز، وخدمة الشعبين بقناعة وتفكير سليم. والأمر الذي يختلف عنه في العالم العربي، الذي تسكنه البيروقراطية، والعشائرية، في مخالفة واضحة لأساليب النجاح وتحقيق الانسجام المجتمعي دونما تفرقة في العرق أو اللون أو الفكر.
والعالم العربي يرزح تحت وطأة الحرب مع الأقليات، وهذا يشق الصف الوطني، والعالم العربي تسكنه المبالغة وتنمية «الحاشية»، التي قد لا تنصح النصح المؤدي إلى رفعة الأوطان أو استقرارها. والعالم العربي لا يطبق مبدأ «الرجل المناسب في المكان المناسب»، وهذا سبب رئيسي للتخلف والجهل الذي تعيشه بعض بلدان هذا العالم.
إن غياب العدالة والديموقراطية عن بعض دول العالم العربي من الأسباب الرئيسية لعدم قبول الأفكار الجديدة! كما أن تجارب التعليم في هذا العالم كانت أيضاً مريرة، على رغم أن النظام التعليمي في بلد مثل مصر والعراق مثلاً كان قبل سنغافورة أو ماليزيا!
أتمنى أن يقرأ المخططون والزعماء كتاب محاضر محمد «المستقبل المسروق»، بحيث تتضح لهم الصورة، وأن كل ما يقوله بعض المخططين والمستشارين بعيد جداً عن مصالح الشعوب، قدر ما يصب في مصالحهم هم أنفسهم، وما يدعم مشاريعهم المالية التي يُصرف منها دون حساب أو مكاشفة!
إن علينا أن نعترف بأننا نعيش في مأزق إداري لن تغطيه الدولارات، ومأزق أخلاقي لن يرفعه الإعلام الدعائي الذي يعيش هو الآخر أزمة مصداقية! كما أنه من حق الشعوب العربية أيضاً أن تسأل: إلى متى سنظل نتأخر بينما تتقدم الشعوب الأخرى؟!