مأزق المجتمعات النصّية
النص: صيغة من الكلام الأصلي التي وردت من المؤلف. وفي العلوم اللغوية، النص هو العلم الذي يتناول الظاهرة اللغوية عبر مجموعة من التخصصات العلمية، كعلوم القواعد واللسانيات والتاريخ والاجتماع والاقتصاد وغيرها. وتحليل النص في الآداب: محاولة لقراءة الأدب قراءة فاحصة تتناول أجزاءهُ تفصيلاً، وهو منهج في النقد الأدبي قوامه التحليل المفصّل للمؤلَّف الأدبي جزءاً جزءاً. (موقع المعاني).
وقد ورد مصطلح «المجتمعات النصّية» خلال حديث مع أحد الأصدقاء، كنا وقتها نتداول قضية الإيمان المطلق بالنص، والذي دأب عليه العديد من المجتمعات، حتى غير العربية. ذلك أن المجتمعات «غير النصية» تؤمن بتقلبات الأوضاع، وحتميات التأقلم مع صيرورات الحياة وتبدل أنماطها الاجتماعية.
نحن هنا لا نتحدث عن الالتزام بالنص الديني لكل الأديان السماوية، بما في ذلك الدين الإسلامي الحنيف، فمصادر تلك النصوص لا يرقى إليها الشك. ولكننا نتحدث عن قضية الالتزام بتأويل النص، ليس في أيام الإسلام الأولى، بل بعد عهود طويلة من ذلك، وخروج بعض المفسرين الذين فرضوا صيغاً من القوانين النصية على الحياة الاجتماعية، ما أدى إلى تقوقع المجتمعات، وتكبيل العقل، وبالتالي تراجع تفكير المجتمعات وقبولها بأن تكون «مجتمعات نصّية» يحكمها النصّ دون أن يكون لديها الجرأة أو القدرة على مناقشة تأويلات ذلك النص، أو مدى نفعها للمجتمع.
وقد توالدت تلك «المجتمعات النصية»، وظهرت تأويلات لمصطلحات «الحلال والحرام» و«الإيمان والكفر» و«الخير والشر» على يد مفسرين لم يستوعبوا أهمية الحلول الأخرى لمجتمعاتهم. وخلط البعض هو شرعي مُنزل من الله سبحانه وتعالى، وبين ما هو عاطفي أرضي، تولّد من دواخلهم وظروفهم الشخصية والاجتماعية، ولم يسمحوا بمناقشته مع الآخرين.
وكان بعض «النصوص الأرضية» يكبّل العقل، ويغلق آفاق التفكير، ما أدى إلى ارتكاز الدولة، أي دولة، على مفاهيم النص الأرضي، لاعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية. فكثير من الأنظمة ساندت واضعي النص الأرضي، ورأت في فرض نصوصهم وسيلة لفرض الأمر الواقع! ومع مرور الأيام وُجدت مجتمعات تتمسك بالقشور ولا تدرك الأصول، تماماً كما وُجدت البِدَع والخرافات، التي نسمع بعضها من خلال بعض الفضائيات العربية، التي تتحدث عن خوارق لبعض رجال الدين القدامى! وهي خوارق من المعيب أن نسمعها في هذا العصر.
وقد أثبتت الأيام أن جُل المجتمعات التي التزمت بالنص الأرضي لم تتقدم ولم تقدم حلولاً لمشكلاتها، كما حصل مع الأمم الأخرى التي حافظت على «نصوصها»، ولكن فسّرتها تفسيراً يتلاءم مع ظروف الحياة، وناقشت تلك النصوص بروح عصرية لخدمة المجتمع بأكمله، وبما يحقق العدالة والكرامة للجميع، دون أن يقتصر ذلك على جماعة أو طبقة معينة.
إن الهند مثلاً لم تكن بلداً موحداً لا سياسياً ولا ثقافياً ولا دينياً، وكانت نسبة الهندوس هي الغالبة (81.3%) من مليار ومئتي مليون نسمة، ولكن هذا لم يمنع من وصول رئيس مسلم لهذا البلد. ذلك أن النظام الديمقراطي لم يمنع المواطنين من ممارسة طقوسهم، ولكن فتح عقول الناس لاستيعاب الحياة العصرية، حيث دخلت الهند في أجمل ديمقراطية، وأحدث ثورة زراعية وصناعية حتى وصلت إلى ارتياد الفضاء. وكذلك نجد اليابان، التي لديها هي أيضاً، بلاشك، نصوص، وضُربت بالقنابل الذرية في عام 1945 في هيروشيما وناجازاكي، إلا أنها استفاقت، مثل طائر الفينيق من الرماد، وقدّمت للبشرية أرقى الصناعات. والأمر ينطبق على بقية النمور الآسيوية!
وفي مقابل ذلك نجد أن بعض المجتمعات التي كانت تُحرّم الاقتراب من «النص الأرضي» ظلت متخلفة اقتصادياً واجتماعياً، وهذا أدى إلى حالات «تكالب سياسي» نتجت عنه حروب دامية أضرّت بالمجتمعات وأخّرت إنتاجيتها، وتنوعت فيها «النصوص الأرضية» ما أدى إلى تشققات سياسية واجتماعية، كما نرى اليوم في سوريا واليمن والعراق وغيرها من البلدان التي كانت تُرائي بتطبيق «النص الأرضي» وابتعدت عن النص السماوي!
ونلاحظ أنه كلما زادت الأمية زاد الاقتراب من «النص الأرضي»، كما هو الحال في بعض الدول العربية وأفريقيا، حيث تزيد حدة ضيق النص، بما يمكن من ظهور الخرافة والشعوذة في أشكال متعددة.
نحن بحاجة إلى وقفة مراجعة لنرى ماذا فعل بنا «النص الأرضي»، ونقارن بين ما نحن فيه، وما وصلت إليه المجتمعات الأخرى!