انتفاء المثقف الخارق!
في النقاش المستديم حول أدوار المثقف ومواقعه في إزاء مسألة التغيير السياسي والاجتماعي، ثمة فكرة تصور المثقف وكأنه حالة أسطورية قادرة على اجتراح الخوارق. مطلوب من المثقف أن يواجه كل التحديات والمعوقات، الديكتاتوريات، الاحتلالات، الاستبدادات، التخلف الاجتماعي، الفساد، العسكر، وأن ينتصر عليهم جميعاً كي يكون وفياً لأفكاره ورؤاه. هذه الصورة، المبالغ في توصيفها هنا، خرافية بطبيعة الحال ولا علاقة لها بالواقع. المثقف، كما نعرف وكما دافع عنه «ريجيه دوبريه» ذات يوم فرد من أفراد المجتمع يواجه تحديات حياتية ومعيشية وله عائلة وأطفال، وله وظيفة أو مصدر دخل يحاول الحرص على استمراره كما يفعل باقي البشر.
إزاء تصور المثقف وكأنه كائن خارق للعادة، بإمكانه القيام بالمعجزات، علينا أن نتذكر أن أكبر مثقف أو فيلسوف في العالم ومهما كانت أفكاره عظيمة لا يتحمل رصاصة واحدة في رأسه. سقراط الفيلسوف الأكبر ناوله السم فرد من النظام القائم لم نعرف اسمه. أفكار المثقف أهم منه وربما من دوره السياسي وانخراطه «الفيزيائي» في الفعل. كل المفكرين والفلاسفة الذين أعدمهم الطغاة تركوا خلفهم أفكاراً ونظريات قلبت مجتمعات وغيرت مسارات، وأهميتهم جاءت بالضبط من هذه النقطة وليس من دورهم السياسي المباشر أو الخارق للعادة. هذا الإقرار الأولي لا يعني ولا يتضمن أمرين. لا يعني، أولاً، نفي واسترذال عمل المثقف في السياسة أو أن يكون ناشطاً في نشر الوعي بالأفكار والرؤى التغييرية، بل إن هذا الانخراط هو بالضبط المطلوب والمفترض والحالة الطبيعية، ولكن غيابه لا يستدعي إدانة المثقف. كما أن هذا الإقرار الأولي لا يعني، وفي أي شكل من الأشكال، التبرير والتسويغ لاندراج المثقف في «الوضع القائم» من دون أي مقاومة، حتى لو كانت لفظية وكلامية، وأضعف إيمانها الصمت عن تأييد الوضع القائم وتمثلاته. ثمة نقطة توازن دقيقة بين التمسك بالأفكار والدفاع عنها وعدم التخلي عن المبدئية، والمناورة ضد الإكراهات التي قد تفرضها السلطات والسياقات المختلفة، وعقلنة النظرة إلى المثقف التي تحول تميزه بالأفكار والرؤى إلى عبء أمام الوجدان الشعبي والرأي العام الذي يطالبه بإنجاز مهمات ضخمة خارجة عن قدرته الفردية.
ومن زاوية نظرية أوسع يعود جزء من هذا الجدل حول دور المثقف أو المفكر إلى حصر هذا الدور في «فهم العالم» أو توسيعه إلى مهمة «تغيير العالم». وتتداخل المفاهيم والأدوار وتختلط إذا تعلق الأمر بالمشروعات والرؤى الكبرى التي تحفل بمصائر البشر وبقضايا جذرية مثل العدل ودحر الظلم والمساواة بين الناس. وإحدى مساحات التداخل النظري في أزمنة تاريخية ومتطاولة تعلقت دوماً بدور الفكر والفلسفة في التغيير، وعلاقة المفكر والفيلسوف بالفكر و«اليوتوبيا» من جهة، وبالتاريخ المتغير والمنفعل مع الواقع من جهة أخرى. ومن هنا جاءت الرؤية الماركسية بمقاربة حسمت كثيراً من التداخل، وأعادت موضعة الأدوار والفاعلين عندما أناطت بالمثقف مهمة التغيير وليس فقط مهمة الفهم والتأمل التي يقوم بها الفيلسوف أو المفكر. تلك الإزاحة الكبرى في تعقل وفهم مهمة المثقف، ضمن السجال العريض للواقعية الماركسية ضد المثالية الهيغلية، أناطت بالمثقف مهمة متقدمة وفاعلة لأنه وإن كان قد يتوافق مع الفيلسوف في توصيف الوضع القائم (الفاسد، أو غير العادل مثلاً) وفهم جذور اعتلالاته، فإنه يفترق عنه باندفاعه نحو الرفض العملي والفاعل لهذا الواقع ومحاولة تغييره. ومن هنا طور أنطونيو غرامشي في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي سياق سنوات سجنه ونضالاته ضد الفاشية الإيطالية، مفهوم «المثقف العضوي» الملتزم بقضايا الطبقات المسحوقة والملتزم بمواجهة السلطة والاستبداد. ومن هذا المفهوم تناسلت تعريفات وتحولات مختلفة للمثقف.
لا تتحدد مهمة المثقف في المواجهة المباشرة مع السلطات والاستبدادات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يفرضها سياق معين، بل ربما والأصعب من ذلك التصدي لإعادة موضعة المشروع الثقافي المحلي الوطني إزاء انزياحات العولمة وتأثيراتها وإكراهاتها أيضاً. وهنا يمكن أن نقول إن هناك ثلاثة مكونات ثقافية في عالم اليوم تتآلف في تشكيل وبلورة الثقافات الوطنية حيثما كانت، وتفترض على المثقف التأمل العميق فيها وفي قراءة علاقاتها البينية. وهذه المكونات أولها وطنية ذات خصوصية وطابع محلي، وثانيها مكونات كوسموبوليتانية إنسانوية متوافق عليها تمثل القيم والمشتركات الإنسانية مع الثقافات الأخرى أينما كانت، مثل قيم العدل والنبل والشجاعة والحرية، وثالثها مكونات إكراهية تفرضها بشكل مباشر أو غير مباشر الثقافة الغالبة في اللحظة المعنية التي يمر بها البشر. وفي العالم الراهن هذه الثقافة هي الثقافة الغربية وهي غالبة ومتغلبة لأسباب واضحة.
ويتناسل عن التصور المثالي للمثقف وإناطة أدوار خارقة به تصور آخر لا يقل تعميمية ويقع على النقيض ويشير إلى سلبية المثقفين وعدم قيامهم بأي دور في مجتمعاتهم. ويشير البعض إلى «فشلهم في ثورات الربيع العربي». عملياً لا نستطيع وضع «الكتاب والمثقفين» في سلة واحدة ثم إصدار حكم قاطع عليهم وعلى أدوارهم. ومن المعروف أولاً أن الانتفاضات العربية فاجأت الجميع بما فيهم الكتاب والمثقفون ولم يتوقع أحد انفجارها وتبلورها السريع في أكثر من بلد عربي وإسقاطها لعدد من أكثر الديكتاتوريات العربية رسوخاً. وإسقاط أي ديكتاتورية في أي مكان في العالم مهمة أكبر بكثير من قدرة أي مثقف أو كاتب. المثقف ليس كائناً أسطورياً يمكنه القيام بالمعجزات، بل هو فرد عادي قد يمتلك رؤية للتغيير ويحاول نشر الوعي بها. وليست لديه أدوات غير الفكرة والكتابة، ثم التبشير بما يرى، ومشاركة القوى الفاعلة مشروع التغيير. والمثقفون والكتاب السلبيون هم أولئك الذين يقفون في صف الاستبداد، أو في صف الإيديولوجيات الصلدة التي لا تقبل الآخر وتريد قولبة المجتمعات والثقافات وفق ما تراه من رؤى أحادية. والمثقفون والكتاب السلبيون في كل حين وآن هم مثقفو «التسويغ» و«التبرير»، وهؤلاء إما يفتقدون لبعد النظر التاريخي الذي يموضع أي تغيير في سياقات زمنية وتاريخية أوسع لها علاقة بالنهضة المستقبلية، أو ينحازون للمصلحة الأنانية والاعتياش والارتزاق. وجود المثقف السلبي هو الذي يؤشر إلى النقيض وهو المثقف الناقد و«المثقف العضوي» والمثقف القلق، وهؤلاء هم حملة لواء التغيير على رغم أنهم ليسوا خارقي القدرات ولا من حملة المعجزات.