أزمة الديمقراطية وانهيار العولمة
ثلاث أزمات مترابطة تعد من بين الأبعاد الرئيسة لعصر الاضطراب العالمي الذي نعيشه هذه الأيام وهي أزمة الديمقراطية وانهيار العولمة وصعود ظاهرة الإرهاب العالمي.
وفي كتاباتنا في السنوات الماضية ركزنا شديداً على أزمة الديمقراطية في عالمنا العربي بحكم هيمنة النظم الشمولية والسلطوية على مجمل الفضاء السياسي بحيث أصبح صوت الجماهير مقموعاً أو هو بعبارة أخرى يساق سوقاً إلى صناديق الانتخابات التي كانت تتم عادة في سياق من التزوير السياسي الشامل لإرادة الشعوب.
من هنا تصاعدت دعوات «الإصلاح الديمقراطي» تحت ضغوط الخارج والداخل معاً. أما ضغوط الخارج فتتمثل أساساً في الولايات المتحدة الأميركية التي تصرفت في هذا المضمار باعتبارها زعيمة الديمقراطية في العالم وحاملة مشعل الدفاع عن حقوق الإنسان بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي. وكان من الطبيعي أن تقاوم النظم العربية الشمولية والسلطوية هذه الضغوط أو تناور فتحدث تعديلات شكلية في الممارسة السياسية- كما فعل النظام السياسي المصري في عهد الرئيس السابق «مبارك»- حين أدخل تعديلات دستورية على الدستور المصري لكي يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب وليس عن طريق الاستفتاء.
غير أن مسار الإصلاح الديمقراطي تعثر لأن النظم السياسية العربية ظلت متمسكة بشموليتها أو سلطويتها مما أدى في النهاية إلى اندلاع ما أطلق عليه «ثورات الربيع العربي» والتي كانت في الواقع مجرد انتفاضات ثورية أخذت شكل الثورات ولكنها لم تكن كذلك لافتقارها إلى قيادات سياسية واعية ورؤى ديمقراطية للمستقبل. غير أن تفاعل الأحداث في عصر العولمة أدى إلى انكشاف الديمقراطية ذاتها في نظر جماهير الدول الغربية المختلفة باعتبار أنه تبين من الممارسة أنها لم تكن إلا ستاراً يحمي أفراد الطبقات العليا المستغلة تحت شعارات فضفاضة وخصوصاً في عصر العولمة الذي سوق للجماهير باعتباره سيحقق تكافؤ الفرص أمامها وسيساعد الدول- وخصوصاً في العالم الثالث- لكي تلحق بقطار التقدم المندفع إلى الأمام بحكم شيوع المعرفة العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصالات التي غطت العالم كله، وجعلت من اليسير للغاية أن ينتقل الناس من بلد إلى آخر سعياً وراء التقدم الاقتصادي أو التأهيل العلمي المتقدم.
غير أن مذهب «الليبرالية الجديدة» الاقتصادي الذي روج له باعتباره جوهر ظاهرة العولمة من وجهة النظر الاقتصادية لم يؤدِّ في التطبيق إلى سوى ازدياد الدول المتقدمة في مجال الثراء مقارنة بالدول النامية التي زادت فيها نسبة الفقر بين السكان، بالإضافة إلى تدهور مستوى معيشة الطبقات الوسطى والدنيا في المجتمعات الغربية بحكم الأزمة الخانقة التي أحاطت بدولة الرعاية الاجتماعية Welfar Stats التي شاعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحمت في الواقع الدول الرأسمالية الغربية من الآثار المدمرة للصراع الطبقي. وهكذا أصبحت جماهير المجتمعات الرأسمالية الغربية تقف مباشرة في مواجهة النخب السياسية الحاكمة التي كانت مسيطرة تماماً على مقاليد الأمور في المجال السياسي متحالفة في ذلك مع كبار رجال الأعمال في ظل ديمقراطية «نيابية» زعمت أنها تمثل مصالح الجماهير خير تمثيل.
غير أن تصاعد معدلات الركود الاقتصادي في عديد من الدول الغربية الرأسمالية بالإضافة إلى الضربة الساحقة التي وجهت إلى الرأسمالية الأميركية حين اندلعت الأزمة الاقتصادية الكبرى فيها عام 2008 واضطرت فيها الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق أوباما إلى أن تضخ عدة تريليونات من الدولارات لإنقاذ الشركات والمؤسسات والبنوك الكبرى، التي كادت أن تجعل الدولة الأميركية ذاتها تعلن إفلاسها فقد كشفت في الواقع أن الرأسمالية كنظام اقتصادي دأبت الدعاية الغربية على أن تصوره باعتباره أنجح المذاهب الاقتصادية قاطبة لا تصلح لتطبيق مبدأها الرئيس، وهو منع تدخل الدولة في الاقتصاد باعتبار أن «السوق» وليس غيره هو الأداة المثلى لتنظيم الحياة الاقتصادية.
وإذا أضفنا إلى ذلك التصاعد الخطر في معدلات «اللا مساواة» في المجتمع الأميركي وغيره من المجتمعات الرأسمالية، بالإضافة إلى زيادة الأواصر السياسية بين أهل السلطة وطبقة رجال الأعمال كما أثبت ذلك علمياً عالم الاقتصاد الفرنسي «بيكيتب» في كتابه الشهير «رأس المال» لأدركنا أن الرأسمالية كنظام اقتصادي قد أعلن إفلاسه التام في مجال المذاهب الاقتصادية الكبرى. غير أن أخطر ما في هذه التطورات هو سقوط نظرية الديمقراطية النيابية ذاتها على أساس أنها- كما تم إثبات ذلك في الممارسة- لم تكن سوى نظام زائف لمصالح الطبقات العليا في حين أن الطبقات الوسطى والفقيرة أصبحت تعاني أشد المعاناة. بعبارة أخرى لم تعد حملات الترويج المنظمة للديمقراطية النيابية باعتبار أنها خير تمثيل لفئات الشعب المختلفة صالحة، ولذلك انقلبت الجماهير على هذه الصيغة الديمقراطية الزائفة ومن هنا نشأ الإقبال الشديد على «الشعبوية»، التي يقودها سياسيون أو رجال أعمال لم يعملوا بالسياسة من قبل وأبرزهم الآن على الساحة العالمية المليونير دونالد ترامب الذي استطاع- عكس كل التوقعات السياسية- أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهكذا أصبحت الدول الغربية الديمقراطية وجهاً لوجه أمام أزمة الديمقراطية مطالبة بأن تتجدد سياسياً وتتجه إلى ما يطلق عليه ديمقراطية المشاركة والتي ما زالت لم تتبلور ملامحها بعد.