التطرف الأيديولوجي والاضطراب العالمي
لم يكن المؤرخ البريطاني العالمي «إريك هوبزبام» مغالياً حين أطلق على كتابه الشهير «تاريخ وجيز للقرن العشرين» بأنه عصر التطرف الأيديولوجي، كما لم يكن عالم السياسة الأميركي «جيمس روزناو» غامضاً حين وصف المرحلة الراهنة من التاريخ بأنها «حقبة الاضطراب العالمي».
ولذلك أبادر- قبل أن أدخل في صميم موضوعي- لكي أقدم تعريفاً بسيطاً للأيديولوجية، مع أن تعريفها أثار خلافات عميقة بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع. وهذا التعريف اقتبسته في الواقع من الفيلسوف البولندي المعروف «آدم شاف» والذي بعد أن خاض في خضم التعريفات المتنوعة للأيديولوجية، صاغ أخيراً هذا التعريف الجامع والمحايد وهو أن: «الأيديولوجية هي نسق من الأفكار يقوم- في ارتكازه على نسق مقبول من القيم- بتحديد اتجاهات الناس وسلوكهم إزاء الأغراض المبتغاة لتطور المجتمع، أو الجماعات الاجتماعية أو الأفراد».
ونحن نعرف جميعاً أن الصراع الأيديولوجي العنيف قام طوال القرن العشرين بين أنصار الماركسية وأتباع الرأسمالية، وكل معسكر يدعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة!
بعد تأمل طويل وصلت إلى قناعة منذ سنوات، إلى أن التركيز على أخطاء الممارسة ليس هو المنهج الأمثل، والأفضل هو نقد الأسس النظرية ذاتها التي قامت عليها كل أيديولوجية. وفي هذا المجال تبدو صحة مبدأ بالغ الأهمية من مبادئ حركة «ما بعد الحداثة» حين أعلنت سقوط الأيديولوجيات المطلقة، أو بعبارة أخرى الأنساق الفكرية المغلقة، مثل الأيديولوجية الماركسية أو الأيديولوجية الرأسمالية. وذلك لأن هذا النمط من التفكير يقوم على أساس أن أنصار كل أيديولوجية يظنون وهماً أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأن الأيديولوجية الأخرى المنافسة باطلة بطلاناً تاماً، وأنه لا بد للإنسانية أن تختار إما الماركسية وإما الرأسمالية، وأنه ليس هناك مجال لأي حلول وسط!
لقد مارست النقد النظري لكل من الماركسية والرأسمالية منذ سنوات بعيدة، وحتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالطبع قبل وقوع الأزمة المالية الرأسمالية! وقد توصلت في هذا النقد- الذي ربما أشرت إليه وإنْ كان بشكل عابر في بعض دراساتي المنشورة- إلى أن المنطلقات الفلسفية لكل من الماركسية والرأسمالية هي موطن الخلل الجسيم في التجربة السوفييتية التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وفي التجربة الرأسمالية، والتي انتهت بالأزمة المالية، أو بمعنى أدق الأزمة الاقتصادية العالمية. والواقع أن الخلل يرد أساساً إلى إقامة تناقض جوهري في الفكر العالمي بمدارسه المختلفة بين الفردية من جانب والجماعية من جانب آخر. بمعنى أن أياً منهما لا بد أن يلغي الآخر تماماً من الوجود، إن أريد تطبيقه بالكامل. غير أن هذه البداية المتواضعة لفكرة الفردية سرعان ما أصبحت هي حجر الأساس في بناء المعمار الرأسمالي! لأن الفكرة تحولت من مجرد الإعلان عن حرية الفرد، إلى اعتبار الفردية هي أساس المجتمع، باعتباره سيكون مكوناً من أفراد أساساً. ومن ناحية أخرى تأكيد أن الحافز الفردي هو الذي سيؤدي إلى التنمية الاقتصادية، وسيكون هو العامل الأساسي في تطوير المجتمع وتقدمه.
وأقيمت حول هذه الفكرة نظريات سياسية متعددة، أبرزها حرية الفرد في الاختيار السياسي، في إطار ديمقراطية تقوم على التعددية الحزبية والانتخابات التنافسية الدورية وتداول السلطة، وحق أي فرد للترشح لأي منصب سياسي، من أول مجالس البلديات حتى رئاسة الجمهورية!
كانت هذه هي معالم مشروع الحداثة الغربي، الذي أقيم النظام الرأسمالي على أساس منطلقاته النظرية وقيمه الأساسية. غير أنه بعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وقيام دولة الاتحاد السوفييتي، تم الإعلان عن مشروع نقيض للحداثة الغربية، وهو مشروع الإنسانية Humanism الاشتراكية، الذي أقيمت على أساسه التجربة الشيوعية. وهذا المشروع يقوم- على عكس مشروع الحداثة الغربي- على «الجماعية» وليس على «الفردية». بمعنى أن هدفه هو تحرير الإنسان من الاستغلال، وإتاحة الفرصة أمامه لازدهار شخصيته، بعد القضاء على الصراع الطبقي في المجتمع، ومنع استغلال الإنسان للإنسان.
وفي ضوء هذا التصور الفلسفي، أقيمت نظرية سوسيولوجية متكاملة، مضمونها أن المجتمع مكون من طبقات اجتماعية وليس من أفراد، وأنه لا يمكن تحليل أي مجتمع بغير رسم خريطة طبقية له تحدد نوع الصراع بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا. وأن الجماعية- أكثر من ذلك- هي التي ينبغي أن تكون الحافز على الإنتاج في المجتمع، بما فيها من روح غيرية، وإيثار صالح الجماعة على صالح الفرد، بدلاً من الفردية التي تقوم على الأنانية، وتؤدي إلى الجشع والبحث عن تحقيق الربح بأي سبيل.
وبناء على هذه الفلسفة الجماعية المتكاملة صدرت المراسيم البلشفية الأولى للحكومة الثورية. وهكذا نستطيع في ضوء هذا التحليل التاريخي لكل من التجربة الرأسمالية الفردية والتجربة الشيوعية الجماعية، أن نحدد موضع الخلل الجسيم في كل منهما. في التجربة الرأسمالية أدى التركيز على الفردية كفلسفة أساسية، واعتبار الفرد محور وجود المجتمع، والنظر إلى الحافز الفردي باعتباره هو المشجع على الاستثمار وجني الأرباح إلى توحش الفرد، وظهور مراكز قوى تتمثل في طبقة من كبار رجال المال والأعمال، الذين باسم الفردية والحرية هيمنوا على ثروات المجتمع، وسخروا أفراد الطبقات الدنيا والمتوسطة وكأنهم عبيد في إقطاعيات عدد من لوردات الإقطاع!
أما تطبيق فلسفة «الجماعية» في الاتحاد السوفييتي فقد كان مضاداً في الواقع للطبيعة الإنسانية، ولذلك فشلت فشلاً ذريعاً. فالإنسان محب لذاته بالطبيعة، ويعمل أساساً لصالحه الخاص. صحيح أنه يمكن تهذيب هذا الحافز وجعله يفكر أيضاً لصالح الجماعة، ولكن لا يمكن أن يتم ذلك بإلغاء الحافز الفردي نهائياً. ومعنى ذلك كله أن الإنسانية في القرن العشرين وقعت بين «مطرقة» الجماعية الشيوعية و«سندان» الفردية الرأسمالية! سقطت فلسفة الجماعية بانهيار الاتحاد السوفييتي، وانهارت الفردية الرأسمالية بوقوع الأزمة المالية الرأسمالية، وهكذا يطرح سؤال العصر! كيف يمكن التأليف الخلاق بين الفردية كحافز أساسي للفرد والجماعية كمصلحة مؤكدة للمجتمع؟