عالم جديد: «صدام القوميات..»!
ينفتح مسرح الصراع العالمي مع السنة الجديدة على مشهد مُذهل قوامه الصعود المُتسارع للقوميات المُتشددة في معظم مناطق العالم، في مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين. لم يشهد التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية صعوداً مماثلاً لهذه القوميات التي تزداد حدة تطرفها وتتنافس بعضها مع بعض في سباق لمن يصل إلى الشوفينية التامة أولاً. هناك جذور وأسباب عديدة لهذا الصعود منها فشل السرديات الكبرى لليبرالية ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والارتدادات غير المتوقعة لتيارات العولمة الاقتصادية والتواصلية والهوياتية وما جلبته من هواجس الخوف على الثقافات والهويات المحلية، وكذا الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت بكثير من البلدان، إضافة إلى صعود الداعشية الدينية وما سبقها من ازدياد أعداد المهاجرين في الغرب.
التأمل في فكرة القومية والقوميات أنهك المفكرين والفلاسفة، ذالك أن القومية، وربما ككثير من الأفكار والبنيات الكبرى الأخرى، تحمل الشيء ونقيضه، وأهم ما تطرحه الفكرة القومية من ناحية عملية وبعيداً عن أساطيرها وحمولاتها الرمزية، خصوصاً في عالم ما بعد الإمبراطوريات، هو فكرة السيادة القومية واحترام كل دولة سيادة الدول الأخرى، وتجريم الحرب والاعتداء على السيادة (بخلاف ما كان عليه وضع العالم الإمبراطوري). وهذا السلام النسبي الذي حققته القومية على أرضية فكرة الاحترام المتبادل للسيادة ربما كان فضيلتها الوحيدة.
مرة أخرى، ليس التنويع الشوفيني المتعصب حكراً على الفكرة أو الأيديولوجية القومية، بل تنطبق احتمالية التطرف الشوفيني على كل فكرة كبرى تقترح حلولاً كلامية للبشر والمجتمعات والكون، بما فيها الأفكار الدينية والدنيوية.
«داعش» الحالية ليست «بدعاً في الأديان» بل سبقتها «داعش» المسيحية و«داعش» اليهودية.. وتكمن بموازاتها اليوم دواعش أخرى هندوسية وبوذية (تستأصل بلا رحمة مسلمي ميانمار مثلاً). في الأيديولوجيات البشرية قدمت الماركسية نموذجاً آخر لتعدد التفسيرات، من الستالينية الدموية القاتلة إلى الاشتراكيات الأوروبية الاسكندنافية، وما بينهما من طيف عريض يمتد من جنوب شرق آسيا، إلى قلب أفريقيا وصولاً إلى طول وعرض أميركا اللاتينية.
عودة النزعة القومية الشوفينية في عالم اليوم تتصف بعدة ملامح:
الملمح الأول، هو السمة العولمية، إذ نحن اليوم أمام ما يمكن وصفه بـ«تعولم الشوفينيات»، بمعنى تعاضد الصعود المتسارع والمتوازي والمُدهش للقوميات المُتشددة في معظم مناطق العالم. وكما هي الظواهر المعولمة التي شهدها البشر في حقب مختلفة، يقف عالم اليوم على حافة الانزلاق إلى حقبة معولمة جديدة محورها التقوقع القومي المتشدد على الذات وتبجيلها والاستعداد المَرضي لخوض صراعات وحروب قومية تستبطن ادّعاءات التفوق على الآخرين. المفارقة هنا أن لفظة «عولمة الشوفينية» تحمل تناقضاً في المعنى، ذالك أن العولمة تعني استبطاناً تجاوز ظاهرةٍ ما للحدود القومية، بينما هنا نستخدمها لانتشار فكرة التشدد القومي والشوفينية في بقاع العالم العديدة.
الملمح الثاني، هو انطلاق نظرة القوميات المُتشددة لمصالح دولها وشعوبها من زاوية صارمة لا تقبل إلا الظفر والفوز بـ«الغنيمة كلها»، ولا تتعقل الصراعات والسياسة الدولية إلا بكونها معارك صفرية، لا يكون ظفر المنتصر بأيٍّ منها إلا عبر الخسارة الشاملة والمدمرة للآخرين.
الملمح الثالث، يتمثل في الهوس بنوع مُحدد من القادة الشعبويين الذين لا يعترفون بالسياسة كآلية لتطويق الخلاف وتسهيل المساومة والوصول إلى حلول تُرضي الحد الأدنى للأطراف المتصارعة، بل ينزعون إلى الخطابية والشعاراتية وتبنّي سياسات قصوى تنتزع التصفيق والتأييد الغوغائي حتى لو لم تكن محسوبة وعقلانية.
الملمح الرابع، هو أن «العدة الفكرية» للقومية الشوفينية الجديدة مُتناقضة ومربكة، فهي خليط من أفكار متناثرة وخلطة أيديولوجية غريبة، فيها مكونات رأسمالية وماركسية، وعلى أرضيتها تلتقي تيارات وتوجهات كانت حتى وقت قريب يعادي بعضها بعضاً. كل هذه التوجهات تَعتبر الانفتاح والاندماج في المحيط الأوسع هو جذر الخراب الذي يتعرض له «الوطن».
في مطلع العام الجديد تتمظهر عولمة القوميات الشوفينية في التلاقي الغريب بين الرأسمالية القومية المتشددة وتنويعات من اليسار المرتبك، في بريطانيا حول الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي فوز ترامب في الولايات المتحدة، وفي الفوز المتوقع لأحزاب اليمين في أكثر من دولة أوروبية مثل فرنسا وهولندا والنمسا وربما ألمانيا، إلى جانب أوروبا الشرقية المحكومة أساساً باليمين. عام جديد وحقبة جديدة لا يبشِّران بالخير!
---------------
*كاتب وأكاديمي عربي