المسؤولية الأميركية عن الإرهاب المعولم
في ختام إطارنا النظري الذي وضعناه عقب الأحداث الإرهابية التي وقعت في سبتمبر عام 2001 ضد الولايات المتحدة الأميركية تحدثنا عن النتائج المتوقعة للحدث من ناحية، وعلى النتائج غير المتوقعة من ناحية أخرى. فيما يتعلق بالنتائج المتوقعة تنبأنا بأن الولايات المتحدة الأميركية ستتحول من مركز الدولة الأعظم في النظام الدولي- خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي- لتصبح إمبراطورية متكاملة الأركان في يدها مفاتيح الحرب والسلام. غير أننا لم نستطيع أن نحدد ما هي النتائج غير المتوقعة. وقد تكفلت الأحداث التاريخية بملء هذا الفراغ في مجال تنبؤاتنا، حيث برز الإرهّاب المعولم باعتباره أبرز النتائج غير المتوقعة، وذلك لأن الإمبراطورية الوليدة في عهد الرئيس الأميركي «بوش الابن» الذي أعلن حربه ضد الإرهاب الذي لا يحده زمان ولا مكان. وسرعان ما أثبتت الأحداث فشله الذريع في هذا المسعى لأن تنظيم «القاعدة» ورئيسه «بن لادن»- والذي كان يعُتبر رمزاً للإرهاب العالمي- توارى قليلاً بعد أحداث سبتمبر. غير أن شبحه ظهر مرة أخرى في صورة تنظيم «داعش» الذي ساعد الغزو العسكري الأميركي الإجرامي للعراق على إبرازه بعد ما تصاعدت حركة مقاومة ضد قوات الاحتلال الأميركي تزعمها «الزرقاوي» والتي تحولت من بعد لتصبح تنظيم «داعش» الذي أعلن ما يعرف بـ«الدولة الإسلامية في سوريا والعراق»، والتي احتلت مساحات شاسعة في سوريا والعراق لدرجة أنها احتلت مدينة «الموصل» العراقية التي يتم الآن تحريرها بعد سنوات من احتلالها بواسطة الميلشيا العسكرية لدولة الخلافة.
والواقع أننا نستطيع أن ننسب انتشار الإرهاب المعولم إلى السياسات الأمريكية الخاطئة خصوصاً حين تحالفت مع تنظيم «القاعدة» للحرب ضد القوات السوفيتية التي احتلت أجزاء من أفغانستان.
ولا شك أن هذا الحلف الأميركي مع تنظيم «القاعدة» كان هو السبب الرئيس في امتداد الإرهاب المعولم من بعد. وبيان ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية التي استخدمت تنظيم «القاعدة» كأداة لمواجهة الغزو السوفيتيي لأفغانستان، سرعان ما تخلت عنه بعد أن قويت شوكته، وأثبت أنه قوة ينبغي أن يُحسب حسابها، ومع ذلك فقد تركته الولايات المتحدة الأميركية في العراء بعد أن استخدمته.
والواقع أن تنظيم «القاعدة» كانت فلسفته الإرهابية التي كان يعتنقها هي النظرية التكفيرية التي صاغها «بن لادن»، والتي مبناها أن العالم ينقسم إلى فسطاطين: فساط الكفر ممثلاً في الدول الغربية وفسطاط الإيمان ممثلاً في الدول الإسلامية. وأصل هذه النظرية في الفكر التكفيري الذي تبنته من قبل «الجماعة الإسلامية» في مصر وجماعة «الجهاد»، والذي مبناه أن الإسلام الذي بشر به الرسول «محمد صلى الله عليه وسلم» كان موجهاً إلى البشر وإلى الجن على السواء. ومن ثم فمن لم يدخل في الإسلام بعد البعثة المحمدية يجوز شرعاً قتاله في الداخل أو في الخارج. ومن هنا أتى الهجوم الإرهابي الذي قام به تنظيم «القاعدة» ضد الولايات المتحدة الأميركية التي اعتبرها تنظيم «القاعدة» رأس الكفر في العالم الغربي. ويمكن القول إن تنظيم «القاعدة»- مثله في ذلك مثل عديد من التنظيمات الإرهابية التي تستند في إرهابها إلى تأويل خاطئ لبعض النصوص الإسلامية- تعتبر «الجهاد» كما تفهمه فريضة إسلامية ضد الكفار الذين سبق لهم أن احتلوا عديداً من البلاد الإسلامية والعربية. وربما ما أكد لهم صدق تحليلاتهم أن الولايات المتحدة الأميركية قامت بالغزو العسكري لدولة أفغانستان، والتي كان يحكمها نظام «طالبان» بدعوى أنه آوى «بن لادن». وهذا الغزو العسكري غير المشروع قوّى حجة الجماعات الإرهابية الإسلامية في اعتبار الولايات المتحدة- بحكم نظامها السياسي الإمبريالي- نظاماً لا يتورع عن غزو الدول والهجوم على الشعوب المسلمة لو وجد مصلحة استراتيجية له في ذلك.
ولعل ما يؤكد هذا التفسير أن تنظيم «داعش» والذي يُعد من أخطر التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم قد عبر بوضوح عن هذا الاتجاه في رسائله الموجهة إلى العالم الغربي عبر شبكة الإنترنت حين هاجم بعض الدول الغربية مثل فرنسا وبلجيكا، والولايات المتحدة الأميركية ذاتها ليست بعيدة عن خططه.
وهذا هو الذي يفسر امتداد الإرهاب المعولم إلى قلب «باريس» في الأحداث الإرهابية التي وقعت ضد المسرح الفرنسي والذي أوقع بعشرات من الضحايا الفرنسيين. وهذا الاتجاه لدى «داعش» هو الذي يفسر تصريحاته بأنه يهدف إلى الهجوم على «روما» باعتبارها تاريخياً مصدر الهجوم على الإسلام. ويمكن القول- بعيداً عن هذه التصريحات الإرهابية التي تحاول عبثاً إثبات شرعية الهجوم الإرهابي على القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية -إن هذه التصريحات تتفق مع أحداث التاريخ العالمي. فمن المعروف أن عديداً من الدول الغربية وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا قامت باحتلال عديد من البلاد العربية الإسلامية بدعاوى كاذبة وتبريرات لها إيديولوجية تقوم على مسلمات المركزية الغربية العنصرية التي ادعت أن الغرب هو مصدر القيم الإنسانية الرفيعة، ومن ثم فمن حق الدول الغربية أن تحتل وتستعمر الشعوب غير الغربية مثل الشعوب العربية والإسلامية.