الإمبراطورية والإرهاب المعولم
في ختام إطارنا النظري الذي صغناه مباشرةً عقب الأحداث الإرهابية التي ضربت معاقل القوة الأميركية في الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 أثرنا سؤالاً بالغ الأهمية هو: ما النتائج المتوقعة لهذا الحدث الإرهابي الذي هز العالم كله، وذلك على بنية النظام الدولي ذاته والقيم التي يستند إليها؟ بل إننا أثرنا سؤالاً أخيراً هو: ما النتائج غير المتوقعة؟ توالت الأحداث الدرامية التي أعقبت الحدث بيان النتائج المتوقعة في نظرنا، وهي على وجه التحديد تحوُّل الولايات المتحدة الأميركية من مركز القطب الأعظم الذي يهيمن على اتخاذ القرار الدولي، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحول النظام الثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية. وظهرت الولايات المتحدة الأميركية كأنها إمبراطورية، وذلك بعد التصريحات الهستيرية الأميركية التي أطلقها الرئيس السابق «بوش» وأهمها إعلان الحرب الشاملة على الإرهاب وهي حرب لا يحدّها مكان ولا زمان، والأخطر من ذلك تصريحه بأن الولايات المتحدة الأميركية لها مطلق الحرية في الهجوم على أي دولة تمثل خطراً على الأمن القومي الأميركي، أو تحاول إزاحتها من موقعها باعتبارها القوة العالمية العظمى.
ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية -باعتبارها تحولت لتصبح إمبراطورية- أصبحت هي بمفردها التي تمسك بمفاتيح الحرب والسلم. والدليل على ذلك قرارها الفوري بغزو أفغانستان لإسقاط نظام «طالبان» باعتبار أن قادته قاموا بإيواء «بن لادن» زعيم تنظيم «القاعدة»، الذي نُسب إليه تخطيط وتنفيذ الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة الأميركية.
وتحقق الغزو العسكري بالفعل، وسقط نظام «طالبان» بحكم الفارق الضخم في القوة العسكرية بينه وبين الإمبراطورية الأميركية البازغة. وقد ترتب على هذا الغزو الإمبراطوري نتائج كارثية سواء بالنسبة إلى الشعب الأفغاني نظراً إلى ضحايا الحرب من المدنيين على وجه الخصوص، أو حتى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية ذاتها التي قامت بالحرب! ويرد ذلك إلى أن الحسابات الأميركية للغزو لم تكن دقيقة. وقد أدى التعجل في الهجوم إلى وقوع ضحايا أميركيين من بين القوات الغازية، وأصبحت مسألة الانسحاب من أفغانستان بعد ذلك مشكلة مؤرقة لرئيس الجمهورية «أوباما» الذي خلف «بوش الابن» في الرئاسة والذي تردد في الاستجابة لطلب القادة العسكريين في زيادة القوات الأميركية في أفغانستان.
وبعد شهور من التردد وافق «أوباما» على زيادة عدد المقاتلين بنسبة أقل كثيراً مما طلبه الجنرال «باتريوس» لأن أشباح حرب فيتنام كانت ما زالت حية في الوعي الجماهيري الأميركي.
غير أن السلوك الإمبراطوري الأميركي ظهر للعيان حين قرر الرئيس الأميركي السابق «بوش الابن» -بناءً على ضغوط فئة المحافظين الجدد الذين سيطروا على قراراته الاستراتيجية- غزو العراق عسكرياً بتهمة أن النظام العراقى يمتلك أسلحة دمار شامل. وحين عرضت الولايات المتحدة الأميركية الموضوع على مجلس الأمن رفضت الدول الكبرى صاحبة حق «الفيتو» مشروع الغزو العسكري الأميركي للعراق. ومع ذلك بتأثير العنهجية الإمبراطورية -إن صح التعبير- قررت الولايات المتحدة الأميركية غزو العراق مما ترتب عليه نتائج كارثية حقاً سواء بالنسبة إلى القوات الغازية أو بالنسبة إلى المجتمع العراقي نفسه الذي تمزق نسيجه الاجتماعي نتيجة للغزو بعد أن تحولت العراق إلى شيع متنافرة من الشيعة الذين سيطروا على النظام السياسي العراقي بعد الغزو ومن السُّنة الذين كانوا هم الذين يحكمون العراق قبل الغزو.
وأخطر من ذلك كله أنه -على عكس التوقعات الأميركية الساذجة- لم تقابَل قوات الغزو بالورود من سكان العراق لتحريرهم من ديكتاتورية «صدام»، وإنما قوبلوا بمقاومة بالغة الشراسة أدت إلى وقوع عشرات من المقاتلين الأميركيين وأدى منظر النعوش الأميركية المتتالية إلى تذكر أشباح «فيتنام» مرة أخرى، مما أدى إلى قلق الرأي العام الأميركي الشديد بشأن تورط الولايات المتحدة الأميركية في غزو العراق.
وهكذا يمكن القول إن الغزو الأميركي لأفغانستان أولاً ثم للعراق ثانياً، كان هو بداية حقبة الاضطرابات في الشرق الأوسط، والتي اتسع نطاقها بعد ما أُطلق عليه «ثورات الربيع العربي»، التي بدأت في تونس ثم امتدت إلى مصر واليمن وسوريا. وهكذا أصبح الشرق الأوسط بشكل عام والعالم العربي بوجه خاص وما يدور فيه من حروب أهلية وعرقية أحد معالم مشهد الاضطراب العالمي بوجه عام.
غير أننا إذا كنا قد أشرنا في إطارنا النظري الخاص بدراسة نتائج الحادث الإرهابي الذي وقع ضد الولايات المتحدة الأميركية في سبتمبر 2001 قد أثرنا سؤالاً عن النتائج المتوقعة، فإن السؤال المرافق له عن النتائج غير المتوقعة أصبح هو في الواقع السؤال الرئيس، الذي أثبتت الأحداث أنه يكاد يكون أهم بكثير من السؤال الأول.
وذلك لأن النتائج المتوقعة للحدث الإرهابي كان أهمها على الإطلاق تحوُّل الولايات المتحدة الأميركية من كونها القطب الأعظم في النظام الدولي إلى إمبراطورية متكاملة الأركان. غير أن هذه الإمبراطورية بدأت تُذوى قوتها بالتدريج، وفي وقت قياسي حقاً نتيجة تطورات عالمية كبرى لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية السيطرة على حركتها، أو ضبط إيقاعها. وهذا هو الذي أدى إلى جعل بعض المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين وفي مقدمتهم «جورج فريدمان» الذي ألّف كتاباً بعنوان «العقد القادم» يتحدثون فيه بصراحة عن تحول الإمبراطورية الأميركية إلى جمهورية عادية تحكمها قواعد القانون الدولي لا أكثر ولا أقل.
ومن هنا يمكن القول إن النتائج غير المتوقعة للحدث الإرهابي الذي وُجِّه إلى معاقل القوة الأميركية في سبتمبر 2001 كان هو -عكس كل التوقعات- انتشار الإرهاب المعولم في كل أرجاء المعمورة.