أمّ الربيعين.. «يا مَن فقتِ حسنهما»
ما كان ينتظر أهل الموصل زمناً يقف فيه إبراهيم عواد البدري، المعروف بأبي بكر البغدادي، ويُنصب نفسه ببلاد آشور، ماسكاً عصا الخلافة، ومعتمراً العمامة، خاطفاً المشهد مما تُحرمه «خلافته» من مسلسلات تلفزيونية تاريخية. خطب زعيم «داعش» والجيش العراقي يُحاصره: «الجهاد الكبير، الذي تخوضه دولة الإسلام اليوم، ما يزيدنا إن شاء الله إلا إيماناً وثباتاً، ويقيناً راسخاً بأن ذلك كلُّه ما هو إلا مقدمة للنصر المكين». ويُنادي أهل الموصل كما لو أنهم كائنات الشَّر قائلاً: «يا قوافل الاستشهاديين حولوا ليل الكافرين نهاراً، وخربوا ديارهم دماراً، واجعلوا دماءهم أنهاراً». أقول ما كان يخطر لأم الربيعين (خريفها ربيع ثان)، ولا العراق من زاخو إلى عبدان، أن يسودها زمن الخرافة والانحطاط، زمن القادمين من وراء التاريخ.
لا يعرف إبراهيم عواد، المولود سنة 1971، عن أمجاد أُم الرَّبيعين شيئاً، وقد شبّ في سنوات تؤهل لخروج جحافل من أمثاله، حيث الحروب والحصار على العراق، بحرمانه من استيراد حتى قلم الرصاص، جريمة ارتُكبت من قِبل المجتمع الدولي وقواه الكبرى «المتحضرة»، غير المكترثة بما يؤول إليه الحال، تزامناً مع «حملة إيمانية» كبرى، وشراسة في إدارة السُّلطة، لحقها خطاب مِن نموذج الهذيان: «عندما يتهدد مصيرنا سيخرج المارد المعنوي من القُمقم ويُهشم الزُّجاجة..»، وخطاب «خلافة» جديدة: «قادمون يا حلب، قادمون يا يمن..». إنها أسباب ومسببات، لم تبقِ ربيعاً بالموصل ولا العراق كافةً، بل تشابهت الفصول، وغطت سُحب الخراب الشمس، وجرت الدماء جداولَ.
عُرفت أمُّ الربيعين بنينوى، وقيل الاسم أتى مِن ماء دجلة، منحوتاً من «نينا» آلهة السمك، والتي أصبحت مرادفاً للحوت، فنحت منه اسم يونس أو يونان، وقصة غيابه في جوفها مشهورة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» (الصَّافات: 142). هُدم مقام النبي يونس وحُطم تاريخ نينوى بخطاب إبراهيم عواد: «خربوا ديارهم دماراً»، قالها بلا علم ما بين يونس ونينوى. غدت أمُّ الرَّبيعين أرضاً لمقامات عدة أنبياء، تلتقي بهم الديانات العراقية كافة، فمِن غير يونس، تجد مقام النَّبي شيت (عند المندائيين أيضاً)، وجرجيس (لدى المسيحيين)، ودانيال (لدى اليهود). دخل المسلمون الموصل (16هـ) ولم يخربوا مما كان موجوداً مِن مقامات أو أضرحة أو أديرة أو كنائس.
عندما دخل المسلمون العراق، والموصل ضمنها، كان المسيحيون يتعبدون بالمذهب النسطوري (الكنيسة الشَّرقية) على خلاف الإمبراطورية الرُّومانية الملكية، فجاء في تاريخهم: «إن إله النَّقمات إذ رأى شرَّ الرُّومان، الذين حيثما سيطروا نهبوا كنائسنا وأديرتنا بهمجية، وعاملونا دون شفقة، فأرسل مِن الجنوب بني إسماعيل لينقذونا منهم. فلم تكن فائدة قليلة إننا نجونا مِن قساوة الرُّومان ومِن شرِّهم، وغضبهم وحسدهم العاتي، وإننا حصلنا على الرَّاحة والسَّلام» (أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية)، كذلك يُنقل أن قائد الجيوش أبلغ أهل الموصل: «أنتم منا فما الذي يربطكم بيونان» (المصدر نفسه)، ويقصد الرُّومان.
أقول: مِن أي معاهد تخرجت «داعش»، لتسبي نساء الموصل، وتتوعدهم بأنهار من دماء، وبأن لا تترك أرضهم إلا خراباً، لإعادة التاريخ إلى الوراء؟ أتساءل لأن ما حصل سنة 16هـ لا يتوافق مع ممارسات سنة 1438هـ، لكن علينا أن نفهمه بزمنه، فالجزية كانت مفروضة مِن قِبل رومان وساسانيين، أما أن تطبق في زمننا هذا فذلك يتنافى مع طبيعة الأشياء، وقد صارت المواطنة حلاً.
يكفي أُم الرَّبيعين شرفاً أنها قدّمت للعراق: أبا تمام (ت 231هـ)، وابن الأثير (ت 630هـ)، وشقيقه أبو السَّعادات (ت 606هـ)، والفقيه الذي ضرب مثلاً في التعايش الدِّيني كمال الدِّين (ت 639هـ)، وكوركيس عواد (ت 1992م)، وشقيقه ميخائيل (ت 1995م)، وأبو الصُّوف (ت 2012م)، واللغوي هاشم الطَّعان (ت 1981م)، وصاحب «أدب المعدمين في كتب الأقدمين» سالم الدَّباغ، ووزير الخارجية البارع والشَّاعر شاذل طاقة (ت 1974م)، والأديب عبد الغني الملاح (ت 2001م)، وغيرهم من الكبار علماً وثقافةً.
مَن له باع كباع الموصل، كي تُهتك برايات طائفية؟! أو يكتبُ عنها بجهل: «أُخذت من تركيا وأُضيفت للعراق»؟! بينما هي رأس العراق منذ وجوده ووجودها. أريتم بدناً بلا رأس؟!
لا أجد عبارة أفخم من الجواهري (ت 1997م) في الأعيان المذكورين: «أُمّ الربيعين يا مَنْ فقتِ حسنهما/ بثالثٍ من شبابٍ مشرقٍ خضلِ/ واعٍ تلقف من وحيّ الوعاةِ له/ ما شاءَ مِن سِيرٍ جُلى ومِن مُثلٍ» (جامعة الموصل 1980).
ستذهب «داعش» ويُسدل عليها السِّتار، لكنَّ بـ«حريصين فيما يدعون كفاة»: أن يمنع التَّمايز الطَّائفي ويُجرم، تُرفع الحسينية التي شيدها المجلس الإسلامي الأعلى عند بوابة برطلة المسيحية، يُنسب النَّصر للجيش العراقي فقط، ترفع منظمة بدر وكلُّ ميليشيا اليافطات التي غرستها إشارات لمقارها، يُحرص على السّكان من الثأر والانتقام، يُعلن عفو عام. فمَن تورط مع «داعش» يؤهل مِن جديد. عدا ذلك فبيوض «داعش» ستفقس، والاستفزاز الطائفي الرّحم الحاضن لها.