ما من عراقي سينسى ذلك اليوم المشهود من شهر أبريل، الذي تجمهرت فيه مجموعة مؤلفة من مئات العراقيين حول تمثال ضخم لصدام حسين، وأطاحوا به أرضا وسط الهتاف وصيحات النصر، بمساعدة إحدى الدبابات الأميركية. بذلك الحدث نكون قد طوينا صفحة ثلاثة عقود من الطغيان والاستبداد، وفتحنا بدلا منها صفحة جديدة من صفحات بناء صرح للحرية والديمقراطية مكان ذلك الاستبداد القديم، ونافذة لمستقبل أفضل لأطفالنا. حرصا منها على تحقيق هذا الهدف، فقد وضعتني إدارة بوش أنا وزملائي في المجلس العراقي الحاكم مباشرة أمام تحدي صياغة مسودة دستور دائم للبلاد خلال ستة أشهر، إلى جانب التحرك بأسرع ما يمكن باتجاه إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة تخضع للرقابة الدولية.
من جانبنا فقد قبلنا ذلك التحدي ورحبنا بمساعدة الأمم المتحدة لنا عبر قرار مجلس الأمن الدولي الذي اتخذ في يوم الخميس الماضي القاضي بإعطاء دور للمنظمة الدولية في مراقبة إنجاز واكتمال هذه الأهداف.
غير أننا ندرك أن هناك عقبات تقف في طريق الانتقال صوب الديمقراطية. فخلال الشهور التي أعقبت عملية تحرير العراق، حلت الفوضى وانفلات زمام الأمن، محل مظاهر الفرح والابتهاج بزوال النظام السابق. لذلك فإنه ما أن تأتي اللحظة التي تتاح فيها أخيرا للمواطنين العراقيين فرصة انتخاب حكومتهم بمحض وكامل إرادتهم وحريتهم، فإن المطلوب ليس هو أن يثقوا بأن مؤسسات ومرافق الدولة الجديدة تتسم بالشرعية والاستقلالية فحسب، بل لابد من أن يثقوا وبالقدر ذاته، في أن هذه المرافق والمؤسسات من القوة بحيث يعتمد عليها في توفير الأمن وحماية الحقوق المدنية. هذا هو ما يستدعي أن يسارع التحالف الدولي والمجلس العراقي الحاكم باتخاذ سلسلة من الخطوات بغية تأمين الظروف الملائمة لضمان نجاح العملية الدستورية.
أولى هذه الخطوات أن نسارع بالاستدعاء الفوري لأفراد الجيش وقوات الشرطة الوطنية العراقية، حتى رتبة الضباط الوسطيين على الأقل. فقد كان القرار السابق الذي اتخذه التحالف الدولي بتسريح هذه القوات يستند إلى اعتبارات وتحوطات مفهومة، إلا أن الحصيلة النهائية للأسف أسفرت عن حالة فراغ أمني في البلاد، أسهمت في تقوية شوكة المجرمين ومقاتلي صدام حسين، ومعهم عناصر الإرهاب الدولي الداعمة لنشاطهم. أما خطة التحالف الرامية إلى بناء جيش جديد مؤلف من حوالى 20 ألف جندي، على أن يكونوا مسلحين تسليحا خفيفا، ولا تتعدى مهامهم المحافظة على الأمن وحماية الحدود، فإنها لن تكون سوى توظيف بائس وضعيف لموارد الجيش العراقي الضخمة. والحقيقة هي أن الـ300 ألف جندي عراقي الذين ذهبوا إلى منازلهم في غمرة المواجهة العسكرية مع النظام السابق، إنما هم جنود وطنيون رفضوا أن يقاتلوا من أجل صدام حسين. وهؤلاء سيسعدهم جدا أن يعودوا لمواصلة مهمتهم في حماية أمن البلاد. وعلى التحالف الدولي ألا يخلط بين الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري الخاص التي أنشأها صدام خصيصا بدافع عدم ثقته في الجيش الوطني. وعليه فإن التحالف مطالب بأن يدعم نداء المجلس العراقي الحاكم بعودة هؤلاء الجنود إلى ثكناتهم ومعاودة تدريباتهم، بهدف إعادة نشرهم وتوزيعهم مجددا في النهاية. وسيكون في وسع التحالف ووزارة الداخلية العراقية تعيين الضباط الذين يتولون مهمة استبعاد تلك العناصر المتورطة في ارتكاب جرائم إنسانية في ظل النظام السابق. وفي الإمكان إعادة أكثر الوحدات العسكرية كفاءة من الجيش العراقي للعمل جنبا إلى جنب مع قوات التحالف وتخفيف العبء الأمني عنها. وفي هذا فإن من الأجدى والأسهل بما لا يقاس إلى بدء تأسيس جيش جديد، أن يتم استدعاء أفراد الجيش العراقي إلى ثكناتهم واستئناف تدريباتهم العسكرية. الأمر المفيد هنا أن هذه القوات تتمتع بوجود سلسلة منتظمة وراسخة من النظم القيادية، فضلا عن توفر الهياكل التنظيمية وروح الانضباط العسكري المتوفرة في كل الجيوش الوطنية.
بموجب كل هذه المعطيات فإن تأييد الولايات المتحدة الأميركية لنداء عودة القوات العراقية، لن تكون نتيجته تخفيف العبء الواقع الآن على القوات الأميركية فحسب، وإنما ستكون قد أثبتت للعراقيين حسن وصدق نواياها تجاههم أيضا. على نقيض ذلك، فأيا كان الوجود الأميركي العسكري في العراق، حتى وإن بادرت الأمم المتحدة إلى تعزيزه عسكريا، فإنه لن تكون له المصداقية ولا الثقة التي يحظى بها الجيش الوطني في أوساط المواطنين العراقيين.
ثانيا وفي الاتجاه نفسه، فإنه لا بد من الإسراع بدعوة قوات الشرطة العراقية للعمل أيضا. ذلك أن الغالبية العظمى من أفراد هذه القوات- خلافا لما هو عليه حال أجهزة أمن ومخابرات صدام حسين المرعبة- يسخرون أنفسهم لخدمة الأمن والنظام الوطنيين. أضف إلى ذلك أنه ليس للولايات المتحدة الوقت ولا الأموال اللازمة لإنشاء قوات شرطة جديدة، علاوة على عدم وجود ما يبرر خطوة كهذه أصلا، سيما إذا كان القصد هو بناء قوة شرطة كبيرة الحجم، وراغبة في العمل فعلا من أجل حفظ القانون والنظام في البلاد.
وبخلاف ق