إن الخلط بين التخطيط والاستراتيجية، واختيار الإشراف على التخطيط، بدلاً من تشجيع الاختيار الاستراتيجي المرن، هو فخ شائع بين المسؤولين في القطاعين العام والخاص، والفخ الآخر هو الاهتمام بالأهداف المتوسطة والبعيدة، وجعلها محور الاستراتيجيات الأهم، بدلاً من جعل الأهداف الفورية وقصيرة المدى هي المحرك الرئيسي الذي يضمن النجاح، والفخ الأكبر دون منافس هو عدم التخطيط، ووضع الاستراتيجيات لما هو غير مرئي أو لا يقع ضمن الحواس المباشرة والخبرات المكتسبة لدى الإنسان، والتي لا يتم الحديث عنها في الوقت الحاضر أو حتى غير متوقع حدوثها في المنظور البعيد، وتترك كفجوة عابرة للزمان والمكان.
تجنب هذا الخلط هو ما يميز المفكرين الاستراتيجيين الذين يجعلون موقف مؤسساتهم ودولهم الأكثر استعداداً وجاهزية من بين كل منافسيهم، ويتم ذلك فقط في حال التفريق بين وجود المخططين في كل المستويات، والمنفّذين والمشرفين والقادة والمحللين الاستراتيجيين، وبين المنظّرين والمفكرين الاستراتيجيين، لتتحول الاستراتيجية لعملية تعلّم يمكن أن تمضي في الاتجاه غير المخطط له تماماً دون تأثر الأداء أو غياب القيمة المضافة.
إذاً التخطيط الاستراتيجي التقليدي هو بمثابة تحدٍّ ومعضلة أكبر من كونه ممكّناً استراتيجياً للدول، ونحن نجرب أو قد نتخيل أعمالاً ومهام وممارسات، وتلك التجارب التي تنجح تتقارب تدريجياً إلى أنماط قابلة للتطبيق لتصبح استراتيجيات، وجعل المحلل الاستراتيجي شخصاً يطرح الأسئلة الصحيحة، بدلاً من العثور على الإجابات الصحيحة، وتبنّي طرق جديدة للقيام بالمهام وقد تفشل تلك الطرق، ولكنه فشل مؤقت لكوننا في تعلم دائم ونسبق منافسينا بخطوات من خلال مرات الفشل والتصحيح للوصول للنجاح الذي لا يصل بنا إلى القمة فقط، بل يبقينا بها، ويقلّل من فرص منافسينا من الوصول إلينا قبل أن نكون قد قطعنا مسافات أخرى إلى الأمام بمجرد أن يصلوا إلينا.
من جهة أخرى، يبدو لي أن الثورة الرقمية تبدو عاملاً حتمياً في تفكيك هياكل التخطيط والعمل الاستراتيجي الآن، وربما تُغير الفكر الاستراتيجي دون رجعة، ولن نضع خطة أو استراتيجية بعد عام 2025 لأكثر من شهور أو سنة، بفضل الاندماج الحتمي بين المخططين الاستراتيجيين الاستشرافيين وخبراء الذكاء الاصطناعي، وعلماء ومهندسي ومحللي البيانات الكبرى، والحوسبة السحابية والكمومية.


الطفرة التقنية أدت إلى تقليص الخط الفاصل بين المساحة المادية والافتراضية، وبالتالي تبني المؤسسات الرشيقة اليوم فرقاً مشتركة، سواء كانت مؤسسات أو دولاً، وثقافة مستدامة لمواجهة تحديات التخطيط الاستراتيجي، حيث تقوم تلك الفرق بتطوير خطط وعمليات إدارة الأزمات ومخاطر الكوارث، وتحسين الأداء المؤسسي والتفوق على المنافسين، أو تقديم خدمات في غاية الجودة، وجعل الأهداف الموضوعة غير جامدة وقابلة للتعديل اللحظي وفق تطور مقتضيات الأمور، والتركيز على الفرق التي تمنح الصلاحيات الكافية ويحصل أعضاؤها على استثناءات في الحصول على الترقيات والألقاب الوظيفية خارج الهيكل التقليدي.
وعلى هذا النحو، سيكوّن الفريق الخطة أو خطة تحت الطلب يمكن وضعها وتنفيذها في أي وقت بمساعدة التقنيات الحديثة، والتكيّف في أية لحظة مع المشهد المتغير باستمرار وبالتالي العثور على المواهب، والذي يجب أن يكون الواجب الأهم للقائمين على الموارد البشرية، وذلك إلى جانب جعل الأشخاص غير المبدعين أشخاصاً مبدعين وقادرين على تنفيذ أدوار وقدرات متعددة، مما يعني حلولاً عملية لترهل الهيكل من خلال التوظيف، وتحرير المؤسسة من تغيير الهيكل مع كل متطلب وتحدٍّ وتغيير جديد.
الأشخاص المرنون يشكلون مؤسسة رشيقة وغير قابلة للكسر، حيث تترك فيها الاستراتيجيات على هيئة رؤى واسعة، وليست صياغة ملزمة تجبرك على اتباع خطوات ملزمة لا تستطيع تخطيها في عمليات تشغيلية تجعل الخطط المؤسسية روبوتات إجرائية تجيب وتتعامل على ما يتم تغذيتها به فقط، ولا تلبي احتياجات البيئة المتغيرة في الداخل والخارج.
وبعبارة أخرى ينبغي تشجيع المديرين على التفكير في المستقبل بطرق إبداعية والخروج من المأزق المفاهيمي الثابت، واستخدام تكتيكات الاستفزاز أو الصدمة مثل: طرح أسئلة صعبة، وتحدي الافتراضات التقليدية، والمراهنة على كل الوعود المتعلقة بالذكاء الاصطناعي لتحسين الحدس البشري ودعمه على المستوى الاستراتيجي.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات