مقتل «البوطي»... الوقائع والدلالات
نشرت وسائلُ إعلام النظام السوري عشية الخميس 21/3/2013 أخباراً وصُوَراً عن مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وآخرين بتفجير أمام مسجد الإيمان بدمشق. وقد أثار الخبر لدي شؤوناً وشجوناً ولجهتين: لجهة معرفتي بالشيخ البوطي ومتابعتي لأعماله العلمية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولجهة عمل ومصائر المؤسسة الدينية السنية في نصف القرن الأخير، وبعد قيام حركات التغيير العربية.
والشيخ البوطي، إلى جانب الشيوخ كريم راجح ووهبة الزحيلي ومحمد راتب النابلسي ونور الدين العتر، هم أكبر علماء الشام الأحياء. وبينما صمت معظم علماء الشام أو تركوا سوريا بعدما تعرض له الشيخ الصياصنة إمام الجامع العُمَري بدرعا في بداية الثورة؛ فإنّ الشيخ البوطي والمفتي أحمد حسّون، ظلاَّ أكثر مشايخ سوريا حماساً للأسد ونظامه. وللبوطي مشاهد كثيرةٌ في دعم الأسد بعد قيام الثورة عليه، وقد قال قبل أسابيع في آخِر مواقفه إنّ الأسد وجنوده وضباطه هم في جهادهم ضد الإرهاب والتآمر لا يقلُّون منزلةً وأجراً عن صحابة رسول الله الذين تصدَّوا للردة! وما أزال أذكر له قبل عدة أشهر احتفالاً أقامه بالجامع الأُموي بدمشق للسياسي اللبناني وئام وهّاب إشادةً بمواقفه «التاريخية» من الأسد ونظامه!
وبرز البوطي في مطلع السبعينيات بأُطروحته عن «المصلحة في الفقه الإسلامي». ومن المعروف أن المصلحة باعتبارها دليلاً فرعياً من أدلة التشريع وأُصوله، كانت أساس ومنطلق الدعوة لفتح باب الاجتهاد. والمصالح الضرورية الخمس (حق النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسل، وحقّ المِلْك) هي التي اشترع لها الفقهاء منذ القرن الخامس الهجري، وتقدَّمهم فقهاء الشافعية، (الجويني، والغزالي، وابن عبد السلام)، (والبوطي شافعي كما هو معروف)، ثم تسلّمها فقهاء الحنابلة والمالكية، خاصة الشاطبي الذي كتب فيها كتابه المشهور «الموافقات في أُُصول الشريعة». وقد بدأت العودةُ إليها باعتبارها باباً لتجديد الفقه بعد طبع كتاب الموافقات بتونس عام 1884، وقد أشاد به الإمام محمد عبده، واستخدمه في فتاويه وتفسيره، وشجّع تلاميذه على إصدار نشرة محقّقة منه. ثم وبعد صمت طويل، قام الطاهر بن عاشور التونسي بتأليف كتابه «مقاصد الشريعة»، وبعد عشرين عاماً قام المفكر السياسي المغربي علاّل الفاسي بالشيء نفسه مع توجيه الفكرة توجيهاً سياسياً باتجاه مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية.
ولنعُد إلى البوطي الذي صدرت أُطروحته عندما صدر كتاب الفاسي. بيد أنّ أكثر الذين ألَّفوا بعد البوطي في الموضوع وضعوه تحت عنوان المقاصد، وبذلك نُسي كتاب البوطي إلى حد بعيد. لكن البوطي لم يُنس، لأنه ألّف عام 1993 كتاباً في الجهاد يعتبر فيه أنّ الجهاد الأكبر كان دائماً جهاد النفس، ولا قتال مشروعاً اليوم!
والبوطي من أصل كردي، من قرية على الحدود مع تركيا، وقد ارتبط لديه الفقه بالتصوف، فهو صوفي نقشبندي، وقد اشتهر بين السبعينيات والتسعينيات بأمرين اثنين: عمله أُستاذاً في كلية الشريعة بجامعة دمشق، بعد تخرجه بجامعة الأزهر، وإصداره الكثير من الكتب في الفقه والتفسير والحياة الروحية في الإسلام، ومشكلات الشباب والعصر، ومكافحة التغريب والإلحاد. والأمر الثاني قربُهُ من النظام السوري، ومن حافظ الأسد شخصياً. والمعروف أنّ الشيخ الآخَر الذي كان قريباً من حافظ الأسد أيضاً هو الكردي أحمد كفتارو، الذي عيَّنه الأسد مفتياً لسوريا، وظلّ في هذا المنصب حتى وفاته رغم كبر سنه. واشتهر كفتارو بتزعُّم الطريقة الصوفية النقشبندية، وخَلفَهُ من بعده أولادُهُ في رعاية المؤسسات التي تركها، لكنّ بشار سُرعان ما انقلب عليهم، لأن مخابراته اعتبرت أنهم صاروا مظلّةً لخصوم الإيرانيين الذين أقاموا عدة معاهد وجامعات لنشر التشيُّع في البلاد.
ولا أظنُّ أن قُرب البوطي من آل الأسد يعود إلى مناصب تسنّمها أيامهم، بل وبالدرجة الأولى إلى مأزق المؤسسة الدينية السنية التقليدية بين الأنظمة والحركات السياسية الدينية. فقد صارعت أنظمة الضباط في مشرق العالم العربي ومغربه في البداية المؤسسات الإسلامية التقليدية للفتوى والتعليم والإرشاد العام (المساجد والأوقاف)؛ وذلك لاعتبارها أن تلك المؤسسات تعارض التحديث والطابع الاندماجي والشمولي للسلطة القومية التقدمية، التي تريد «تجنيد» المجتمع كلّه في عمليتي التغيير الاجتماعي والتحرير! ثم تنبهت تلك الأنظمة في مطالع السبعينيات، إلى أنّ الإسلاميين الحزبيين هم الخطر وليس رجالات المؤسسة التقليدية. ولذا فقد عادت لاحتواء أجزاء من المؤسسة رأتها ضروريةً للتصدي للإسلاميين، إضافة للتصدي الأمني. وكان الأسد- شأنه في ذلك شأن صدّام والقذافي والنميري وبن علي- شديد الاحتقار لشيوخ الدين من طائفته الأصلية، ومن طائفته الجديدة (فقد كان يزعُمُ بعد وصوله للسلطة أنه سني شافعي!)، لكنه أدرك أهمية الاستظلال بشيء من المؤسسة التقليدية في طائفتيه، القديمة والجديدة، بعد صدامه الدموي مع «الإخوان المسلمين»،(1980-1982). وفي تلك الفترة اهتم باجتذاب بعض رجال الدين «الذين لم يتلوثوا بالحزبية»، كما كان يقول عن البوطي وكفتارو وأمثالهما. وقد عرفتُ في الثمانينيات عدداً من وزراء الأوقاف السوريين، وكانوا جميعاً يظهرون بعثيتهم وإيمانهم في الوقت نفسه، وقد أقاموا نظاماً صارماً للولاء الديني للرئيس القائد والمؤمن، مثلما فعل السادات، وإن بيُسْر أكبر بكثير لدى الأخير، لاختلاف المجتمعين السوري والمصري. ففي مصر ما كان هناك خلافٌ على الإسلام. وما كان أحد يتعرض لكَ بوصفك عالماً إلا إذا هاجمتَ الرئيس بشكل مباشر. أما في سوريا والعراق والجزائر وليبيا وتونس؛ فكان المشايخ مضطرين لاتّباع عقائديات النظام وليس سلوكياته فقط. ومن تلك العقائديات تقديس الرئيس!
والطريف أن البوطي بالذات، منذ الثمانينيات وإلى يوم أمس، ما أزعجه شيء من سلوك النظام وسياساته، وكنا عندما نلتقي به يحرص في بداية الجلسة على الثناء على شخص الأسد وسياساته، ثم ينصرف بعد هُنيهة للنعي على الإسلام الحزبي وبدعياته، وإلغائه للمذاهب الأربعة بحجة الاجتهاد. فقد كان يعتبر أن الحزبيين الإسلاميين إنما يصارعون المؤسسة الدينية على أرضها، لذلك لابد من مكافحتهم لأنهم يسيسون الدين، ويفرقون الكلمة، وينشرون العنف في المجتمع باسم الدين. وكان يجادلنا نحن طلاب الدراسات الإسلامية في مسائل الطاعة والجماعة لدى أهل السنة، أما الآخرون فكان يجادلهم باسم الاستقرار، ومنع سفك الدم، وحفظ الأهداف العربية والإسلامية لسوريا. وما أزال أذكُرُ نقاشاً دار بيني وبينه بحضور محمد مهدي شمس الدين بعد ندوة في معرض الكتاب العربي ببيروت أواخر السبعينيات. قال البوطي: أنا محتار فيك، أنت لا تقبل الإسلام الحزبي، وتُعلن ولاءك لإسلام المذاهب، وللفصل العملي بين الدين والسياسة، ثم أجدك شديد السخط أيضاً على الأنظمة القائمة: فإما أن تكون مع الإسلام الحزبي الهاجم، أو تكونَ مع النظام القائم! والنظام القائم خير ورحمة لنا نحن علماء الدين، لأنه لا يصارعنا على مهامنا بخلاف الإسلام الحزبي الذي يكفرنا ويقتلني أنا وأنت إن اختلفنا معه وباسم الدين! وقاطعه الشيخ شمس الدين قائلاً: بل هناك طريق ثالث ورابع وخامس بين الإسلام السياسي، والأنظمة القائمة بدون دين ولا دنيا، ودعْنا من هذا الحديث يا رضوان، ولننصرف إلى عشائنا!
ما تبنّى أحد قتل الشيخ البوطي والذين معه. لكن البوطي ما توقف عن دعم نظام الأسد باسم الدين حتى بعد أن قتل من السوريين ستين ألفاً وأكثر، وهجر الملايين. وقد روى لي أحد وجهاء سوريا بلبنان قبل شهرين عن «حلاق» البوطي، أنه تذمّر من الأوضاع عندما كان يحلق له، فانتفض البوطي ساخطاً وقال وهو لا يزال تحت الموس: لا تتكلم يا ولد على أسيادك! فرحم الله البوطي الذي ما كان رغم كل شيء يستحقُّ هذه القتلة، ورحم الله المؤسسة الدينية السنية العريقة، التي قضت نحبها بين الأنظمة الإبادية، والإسلاميات الجهادية. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.