لا أكثر عجباً من بلاد العراق، منجم الأديان والمذاهب والأقوام، كيف لا وهي الماء والخصوبة، كانت ملاذاً للجوعى والعطشى، مع الموقع المثالي وسط الدنيا، وتنوع التضاريس، حيث السهل والصحراء والجبل. هناك كلمة لابن أبي الحديد (ت 656 هـ): «وأهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب» (شرح نهج البلاغة). لكن الدنيا تبدلت فعميّ البصر وأُهمل التدقيق وقصر النظر، ولم يبق سوى الاعتراض في المذاهب. هذا والأمل بالماضي هو العزاء والثراء، مع غرابة العبارة وشرود الفكرة! وبالجملة فإن أغلب المذاهب الكلامية والفقهية واللغوية ظهر على أرض العراق، ولو أردنا تعدادها لم يكفها المقال. أكتب عن الكسنزانية ليس للتعريف بهذه الطريقة الصوفية، بل لما استرعى انتباهي من أمرها، وكنت بينهم في نوفمبر 2012، وهو أن اللقاء ما بين مذهبي أهل العراق أكثر من الافتراق، وهذا القول سيستفز المرضى طائفياً. أقول هذا أخذاً بنظر الاعتبار وحش الطائفية حتى نُسيت آصرة الوطن والتشارك الاجتماعي بالتزاوج، والعيش بمحلات مشتركة، وما ضمته القبائل في أرحامها من المذهبين. حدثني شاعر من آل بو عيسى، يكتفي باسمه واسم أبيه، أنه كان يزور أبناء عمومته من العيساويين السنيين بالفلوجة، متفقدهم في أيام حدة الحرابة الطائفية، الناشبة آنذاك بين العصابات والميليشيات المسلحة. ما زال محدثي حريصاً على مذهب قوافي المتنبي والجواهري في القصيدة، وكان من الناشطين في الحراك السياسي الديني في الثَّمانينيات، إلا أنه تحرر من الضغائن فاتسع قلبه للعيساوي الآخر. على أية حال الشواهد كثيرة، وإذا واصلت الحديث عنها سيأخذني الاستطراد بعيداً. شهدتُ على جدار تكية الكسنزانية، وسط مدينة السليمانية، لوحات نقشت عليها أسماء الأئمة المعروفين عند الاثني عشرية، تقف عند الإمام الثامن علي الرضا (ت 203 هـ)، ولي عهد المأمون (ت 218 هـ)، متصلا به معروف الكرخي (ت 200 هـ)، وقصة إسلام هذا العابد على يد الرضا معروفة، وقيل كان صابئياً مندائياً. وتلك واحدة من اللقاءات أن يسلم على يد إمام الشيعة ويكون سنياً. ألا يشي لنا هذا بأن هناك تطرفاً بجعل النزاع الطائفي هو القاعدة؟ لكن السياسة «حية رقطاء»، عندما تهيمن في الدين والمذهب. إن مرجع الكسنزانية السنية الأول هو علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ)، ثم يأتي أبناؤه وأحفاده حتى الرضا، ولهذا سميت بالعلية، وبالقادرية نسبة إلى عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ). شهدت في التكية مجلساً للحسين (قُتل 61 هـ)، فيه المدائح والمراثي، دونت منه: «من مشينا بطريقك يا حُسين/فزنا والله بإحدى الحسنين». كانت أيام محرم، وتركتهم يستعدون ليوم العاشر منه، تمارس مثلما كان الشيعة يمارسونها قبل أن يدخل تقليد قارئ الروضة، ويُسمى بالروزخون، أي قارئ كتاب «روضة الشُّهداء» للملا حسين الكاشفي (ت 910 هـ)، وكان هذا مستحدثاً (مطهري، الملحمة الحسينية). وجدت فيها شباباً من جنوب العراق من الشيعة منغمسين في الكسنزانية، فللطريقة وجود بالناصرية وسواها، ولها موكبها الحسيني، بلا لطم أو تسويط أو تطبير، وهذا شاهد على سماحة تلك المناطق. جرى حديث طويل مع خليفة الشيخ محمد الكسنزاني، والد الشيخين نهرو وغاندي -كنت ألتقيت بالأب عام 2000 بالسليمانية أيضاً- سألت الخليفة: أراكم علويين أكثر من الشيعة، وأنتم في الفروع شافعية، فلماذا لا تجعلون علياً في الأذان؟ قال: «إن إعلان علي بالولي يصغر من شأنه، كم مررتَ وأنت قادماً إلينا بأضرحة أولياء»؟ قلت: وما هو موقفكم من الوصية التي هي أصل الإمامة لدى الشيعة؟ قال: «لا يهمنا المنصب السياسي، وعلي لدينا هو الوصي بالعلم وهو مرجعنا في الطريقة. نرى طرح موضوع الصراع على الخلافة الدنيوية تقليلا من شأن علي! فهو وصي النبوة في العلم -هذا هو رأي الزيدية (الحميري، الحور العين)- كيف تريد أن ننزله إلى خلاف على رئاسة، أو أنه خاصم عليها، كان يهمه الدين لا السياسة». وأردف قائلاً: «نذكره في أفئدتنا قبل ألسنتنا، لا نمزح في حبنا لعلي، ولا نرتجي مطمعاً إنما طريقتنا سميت باسمه والشيخ عبد القادر والشيخ الكسنزان». كان صوت المنشد شجياً داخل التكية، وهو يعتمر الفيصلية (السِّدارة) التي اعتمرها فيصل الأول (ت 1933) وشاعت بين العراقيين، وظل يعتمرها قُراء المقام. أنشد مع فرقته أكثر من قصيدة في الحسين وآلامه، ودونتُ مما أنشد وهو يُخاطب الحسين: «مهجتك مهجة الزهرة البتول/بيه سرُّ الرِّسالة لكلِّ دين». كان المشاركون في الذِّكر من أهل الأنبار وشباب من قلعة سكر من الناصرية ذائبين في الذِّكر. أتيت على هذا كي أُبرز ما يغيب عن الأنظار بأن آل البيت موحدون لا مفرقون، فلو ميزنا بين التاريخ السياسي وعقائد الناس لعصمت دماء. أقول هذا ولا أنسى التعريف بالكسنزانية: طريقة علوية قادرية أضيف لها الكسنزانية نسبة إلى مفردة كسنـزان الكردية ومعناه: «لا أحد يدري»، أطلقت على الشيخ عبدالكريم (ولد 1824) الملقب بشاه كسنزان، إثر غيابه في رحلة روحية. الكسنزانية، كبقية الصوفية، لا تقر الإسلام السياسي، ولما سألتهم: ألم يكن عزت الدُّوري كسنزانياً، قالوا: منا رؤساء ووزراء، لكن عملهم شيء وارتباطهم بالطريقة شيء آخر، أما الدوري فكانت له صلات صوفية ليست معنا، وسمعنا أنه كان يقول: «مرشدي عفلق وطريقتي بعثية»، هذا ما سمعته منهم أما الشائعات فلا تعنيني. ربما سيُرد علينا بأن لدى الكسنزانية تفانياً في الروحانيات أو ما يسمونها بالشطحات! أقول: هذا موجود لدى الجميع مِن صوفيين وسواهم، ومقالنا لا يعني بغير ما يُلجم الكراهية ويُحبب التعايش داخل بلد مبتلى، فلله درُّ القائل: «ومنْ مذهبي حبُّ الدِّيار لأهلها/ وللناس فيما يَعشَقُون مذاهب» (أبو فراس، الديوان). إذا كانت الكسنزانية القادرية تعتبر علياً مرجعها الأول فإن النَّقشبندية، والتي حظيتُ بلقاء شيوخها بقصبة «الطويلة» على الحدود العراقية الإيرانية، تعتقد بأبي بكر الصديق مرجعاً، وبين الطريقتين وشائج ومشتركات. لاشك أن الأخذ بالمؤتلفات أو المختلفات يعتمد على قدر العقول والنوايا، لكن الدين يؤكد على الأولى، ولمحمد صالح بحر العلوم (ت 1992): «الدين يدعو للوفاق ويدَّعي/داعي النِّفاق بأننا خُصماءُ» (بعض العقائد 1934).