مشاهد لم يصورها الفيلم
تراجعت أخبار الثورة السورية ومأساة الشعب السوري بتقدم أخبار الاحتجاجات الدامية على فيلم يثير الغثيان بمادته وبذاءته وسخفه وتفاهته. فخدم الهدف بأن يطول كرب هذا الشعب العظيم أطول مدة ممكنة، هذا هو ما يخدم إسرائيل لأنها غير مطمئنة لبديل نظام الأسد الذي حتماً لن يكون في صالحها.
توارت الصورة التي رسمها "الربيع العربي" للعالم على مدى العامين الماضيين: ملايين من شباب العرب ترفع شعارات الحرية والكرامة ومحاربة الفساد، وهي صورة ليست كما يشتهي أعداؤهم الذين يصورونهم "كرعاع من الهمج لا تصلح لها الحرية ولا الديمقراطية". وعادت شئياً فشئياً الصورة التي يتمناها أعداء الإسلام والعرب: موتورون معادون لأميركا والغرب ويقتلون السفراء والدبلوماسيين بسبب فيلم، فأين هم من الحرية والديمقراطية والتسامح؟ صحيح أن الفيلم لا علاقة له بكل هذه القيم، ولكن هذا ما سيعمل من أنتج الفيلم وموّله على إعادة تعزيزه وتغذيته للإنسان الغربي عبر إعلامهم من خلال أفعالنا نحن.
بقايا قذافي ليبيا وبلاطجة صالح وفلول مبارك، سارعوا لاستغلال الفيلم باسم الدفاع عن الدين، وهدفهم الانتقام والفوضى والحنين لماض لن يعود.
الرئيس المصري محمد مرسي صار كبالع الموس، يدرك أن متطرفين إسلاميين سيستغلون الحدث لإحراجه ودفعه للمواجهة مع أميركا والوقوف ضد قيم الحرية والديمقراطية محملين إياها المسؤولية عن فيلم الإساءة المخزي، في وقت يدرك أن عظم نظامه الجديد لايزال غضاً طرياً.
تقلصت فرص انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر القادم، وهذا هو ما يريد اليمين الصهيوني ومنتجو الفيلم بأميركا. لا أعتقد أن أوباما أفضل من غيره، وقد سجلت ذلك قبل انتخابه في مواجهة منافسه السابق جون ماكين عام 2008: سلم العراق لإيران، وبلع لسانه في مسألة المستوطنات، وتخبط ولايزال في الموقف من البرنامج النووي الإيراني، وتردد في مساندة ثورات "الربيع العربي"، ويتبع موقف إسرائيل في إطالة الاقتتال في سوريا، ومع هذا فاليمين الصهيو أميركي يراه مسلماً في ثوب مسيحي رغم أنه قتل بن لادن، ويشدد في كل شاردة وواردة على أمن وحماية إسرائيل، ويخاف من نتنياهو. حاول احتواء الموقف بتصريح انتخابي: "نظام مصر ليس عدواً ولا صديقاً لنا"، وقد يتبع هذا التصريح تصاريح أكثر تشدداً ضدنا لأسباب انتخابية إذا استمرت ردود الأفعال الدامية على الفيلم، وهو المتوقع.
إيران بدورها استغلت الحدث لتأجيج التوتر في المنطقة، فهي "الغريق فما خوفي من البلل": حصار خانق وعزلة دولية ومناسبة لتشتيت الأنظار عن برنامجها النووي ودورها في سوريا ومحاولة لقيادة الركب والمزايدة باسم الدفاع عن الإسلام.
شاهدت الفيلم مضطراً لأني لا أكتب عن فيلم لم أشاهده، ولا أعلق على مقالة أو كتاب لم أقرأه، ولا أسجل رأياً حول مقابلة تلفزيونية أو إذاعية لم أستمع لها، فكان باختصار: بذاءة وخلاعة تثير الاشمئزاز والحنق، ولعل هذا هو المطلوب من إنتاجه أصلاً من قبل صهاينة تحقق لها أكثر مما كانت تتمنى، فقد مات ضحية الفيلم خمسة وجرح العشرات وشاهده بسبب ردود أفعالنا أكثر من 400 مليون على اليوتيوب حتى كتابة هذا المقال، وانشغلنا بهذه البذاءة، وفرضوا علينا ترتيب أولوياتنا، فكأنما كانوا يتحكمون بنا عن بعد بثمن بخس- خمسة ملايين دولار هي كلفة إنتاج تلك البذاءة الرخيصة.
لا يوجد مسلم يؤيد البذاءة ضد دينه، ولا إنسان متحضر يؤيد البذاءة أو التعدي على معتقد غيره، لكن لا أظن أنه يوجد مسلم أو إنسان متحضر يؤيد الدموية في ردة الفعل والوقوع بجهل وغباء في شراك البذاءة.