احتقان الطوفان الطائفي
تشعر بأجواء الاحتقان الطائفي في كل مكان، تفتح التلفزيون فتجد شكلًا غريباً يشبه أشكال البشر ينفث سموم الحقد والكراهية دون رادع أو وازع، تفتح رسالة إلكترونية لتجد تسجيلًا مصوراً "يوتيوب" يظهر معمماً يتقيأ كلاماً يعف القلم عن ذكره، تتابع مواقع التواصل الاجتماعي فتجدها تعج بالتراشق الكلامي الطائفي النتن، وتتخلل كل هذا وذاك دعوات يوجهها نفس دعاة الكره والتحارب، وهي دعوات تحث على التلاحم والوحدة الوطنية ورص الصفوف وسد الخلل! إنهم كمن يقتل القتيل ويسير في جنازته، ينفخون في نار الفتنة ويدعون للوحدة في الوقت نفسه!
تلامس هذا الاحتقان والشحن الطائفي حين تقول رأياً: إن انتقدت المعارضة بالبحرين، بحثوا عن مذهبك قبل أن يسمعوا رأيك: أنت سني- ناصبي، لذا كان موقفك هكذا! وإن انتقدت النظام وأنت سني، فأنت ساذج لا تعرف طبيعة الشيعة وأهدافهم ومؤامراتهم عبر التاريخ! وإن كنت شيعياً يقف إلى جانب النظام، فقد اشتروا موقفك بالمال وخنت الطائفة ووقفت ضد الحق.
بالأجواء الطائفية، وفي ظل الاحتراب الطائفي، معيار واحد وحسب، هو الذي يحدد الموقف منك، وهو الذي يفسر الأشياء بسهولة ويسر. يغيب العقل في هذه الأجواء، وتصبح أي محاولة لفهم طبيعة ما يجري بطريقة علمية وعقلية ضرباً من الخبل ونوعا من السذاجة. التفسير الطائفي للأمور هو أسهل أدوات التحليل، وهو استراحة العقل ومخدر التفكير.
شيخ دين يتابعه مئات الآلاف من الشباب على التويتر نزل له شريط على اليوتيوب بتاريخ 21 يناير الماضي، يقول فيه إن ملائكة على خيول بيض كانت تقاتل مع ثوار سوريا في درعا! لن يتجرأ أحد على سؤاله: مرت سبعة أشهر على مشاركة "الملائكة" مع الثوار في القتال، فكم ستطول قبل أن يأتي النصر المؤزر ويسقط بشار ونظامه إلى الأبد؟
ومعمم موتور آخر في لندن يطلق قناة تلفزيونية تبث أناشيد مقيتة: "عائشة في النار"، والمقصود هو السيدة عائشة بنت أبي بكر زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم! المعمم نفسه له تسجيل مصور يؤكد فيه أن كل من لا يولد من شيعة آل البيت، يكون شاذاً جنسياً!
بالطبع، لا يستطيع أحد أن يعطي معياراً واحداً أو مقياساً على أساسه نحدد بأن هذا المعمم أو ذاك "المغتـّر" (من يلبس الغترة بلا عمامة) هو شيخ دين! هكذا وبلا مقدمات، يخرج علينا عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي من أعلن أنه فقيه أو شيخ علم أو رجل دين أو عالم دين دون أن يجرؤ أحد على التساؤل عن المؤهلات والمعايير التي حددت مكانته الدينية، ناهيك عن غياب الجرأة عن مساءلته حول ما يقوله ويبثه من أوهام أو خزعبلات أو حتى أحياناً كلاماً مقرفاً مثل مضاجعة جنازة الوداع أو رضاعة الكبير أو زواج الأطفال.
يعج التويتر بالسباب والشتائم المقذعة لهذه الطائفة أو تلك، وتتحسر على تحويل أداة تكنولوجية مذهلة اخترعها الآخرون كوسيلة للتواصل الاجتماعي والتعبير عن الرأي الحر، وإذ بنا نحولها إلى كثبان الصحاري التي تقابل بها جيش يزيد مع الحسين بن علي وآل بيته في كربلاء! ونجعل من التغريد سيوفاً تحارب في معركة صفين، ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين!
إنها الفتنة التي نشعلها بمحض إرادتنا ومع سبق الإصرار والتخلف، وقودها الجهل والجهلاء، وشررها يتطاير بيننا منذراً بمحرقة هائلة وطوفان سوف يعم الجميع...
فهل نتدارك المحرقة، ونحصن أنفسنا بالعقل والتفكر، وننبذ الجهلاء وتجار الدين السياسي، ونحارب هذا الجهل قبل فوات الأوان؟ لا أظن، لكنني قد بلغت! اللهم فاشهد!