بين الثورة والمعارضة
بقدر ما تُظهر الاحتجاجات الحالية في سوريا قدرة استثنائية على التقدم في مواجهة عنف نظام استثنائي، وتثير بذلك إعجاب العالم، تبدو المعارضة السورية في نظر الجميع وكأنها الثغرة الرئيسية في منظومة التحرر التي وضعها الشعب السوري في الأشهر القليلة الماضية. وبالفعل ليس من الممكن لأي مراقب أن لا يقارن بين التقدم الكبير الذي حققته حركة الاحتجاج الشعبي في الأشهر الأربع الأخيرة، وبين الحصيلة الضئيلة لجهود أحزاب المعارضة وتشكيلاتها المختلفة في الخروج من القبر السياسي الذي وضعها فيه النظام في العقود القليلة الماضية.
والحديث عن المعارضة السورية، بالعلاقة مع الثورة المتقدمة، هو اليوم حديث يجمع بين الأطراف كافة. يطرحه شباب الثورة والمتحالفون معها، ويطرحه ممثلو الطبقات الوسطى والعليا في المجتمع السوري، ويطرحه السياسيون الأجانب المعنيون بالوضع السوري أو المرتبطين بعلاقات خاصة مع سوريا. وستطرحه قريباً تلك القوى العسكرية والأمنية السورية التي لا تزال صامتة بانتظار ما ستسفر عنه المواجهة بين القوى الشعبية الزاحفة على السلطة وقوى النظام المسلحة.
لا يتطلع شباب الثورة إلى المعارضة من أجل المشاركة في المسيرات والمظاهرات، وإن كان لمثل هذا العمل أثر كبير على تشجيع الناس والفئات التي لا تزال مترددة. بل لما يمكن أن تقدمه من مظلة سياسية تجمع أكثر ما يمكن من القوى الاجتماعية وراء الانتفاضة وتعبر عن هويتها الحقيقية في مواجهة الاتهامات التي يسعى النظام إلى رميها بها لتشويه صورتها وتقزيم معانيها. فكان مما وصفه بها أنها غطاء يقدمه سوريون سذج أو ملعوب بهم لمؤامرة أجنبية، وأنها تمثل فئات قليلة من حثالة الشعب، وأن ما يحركها هو الانتقام والأحقاد الطائفية، كما يميل إلى تسويده اليوم. فالمعارضة السياسية هي وحدها التي يمكن المراهنة عليها للدفاع عن مشروع الثورة هذه وإعطائه معناه الحقيقي بوصفه ثورة الكرامة والحرية كما أراد لها أصحابها أن تكون. وهم يتطلعون إلى المعارضة أيضاً لأن وقوفها إلى جانب الثورة، وهي المعروفة بنضالها التاريخي من أجل الحرية والديمقراطية، يقدم لهذه الأخيرة الشرعية التي تحتاجها، في مواجهة الإنكار الكلي من جانب السلطة. وهم ينتظرون من المعارضة أيضا، وهي أكثر تنظيماً وخبرة في الشؤون الخارجية وقدرة على المبادرة السياسية، مساعدتهم في التواصل مع العالم الخارجي ووضع الثورة السورية في إطارها الطبيعي كجزء من ثورات التحرر الإنسانية، وكسب الدعم والتأييد اللذين تحتاجهما خارجياً.
وبالمقابل تنظر قطاعات واسعة من الرأي العام السوري إلى موقف المعارضة لتحدد موقفها أيضاً من الثورة التي يقودها شباب لا يكاد يعرفهم أحد، وهم أيضاً ليس في مصلحتهم أن يظهروا مادامت المعركة لا تزال غير متكافئة والخطر كبير عليهم. فوقوف المعارضة مع الثورة يشكل ضمانة لمسيرتها وأهدافها، ولا يمكن إلا أن يطمئن أولئك الذين يخشون الفوضى، عن حق، على المستقبل ويدفعهم للمراهنة عليها والقطع مع النظام. بالإضافة إلى أن المعارضة تشكل بالنسبة لهذه القطاعات وسيلة التواصل الرئيسية بينهم وبين شباب الثورة الذين لا يعرفونهم ومن الصعب أن يصلوا إليهم اليوم. ويعني التواصل تبادل الأفكار والمعلومات وتلبية الحاجات. وهي أمور لا يمكن للثورة أن تستمر من دونها.
ولا يختلف الأمر فيما يتعلق بالقوى الدولية. فهي حريصة أيضاً على أن لا تتعامل إلا مع أطراف تعرفها وتعرف برامجها وتقدر سلوكها وأعمالها وتستطيع من خلالها الحفاظ على مصالحها، وربما كان أهمها اليوم معرفة ما إذا كانت هناك معارضة قادرة على إدارة البلاد بعد سقوط النظام. ومهما كانت ثقة الدول بثورة الشباب وتقديرهم لأعمالهم البطولية، فهم يريدون التعامل مع أطر منظمة معروفة ويمكن الاتصال بها والنقاش معها. فالمعارضة تلعب هنا أيضاً دور الوسيط التواصلي بين شباب الثورة وبقية القوى الدولية والإقليمية التي يتكون منها النظام الدولي الذي لا تعيش سلطة خارجه اليوم.
باختصار هناك مهام اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وإعلامية ودبلوماسية لا يمكن لشباب الثورة العاملين في الميدان أن يقوموا بها، وهم في ما هم فيه من سرية وعمل يومي لتنظيم الشعب ومسيراته وشعاراته. وهم بحاجة من أجل تلبيتها لأناس أكثر خبرة في هذه الميادين وأكثر قدرة على التحرك والتواصل مع جميع الأطراف. وحتى تستطيع المعارضة القيام بهذه المهام ينبغي أولا أن تقف مع الثورة وهو ما فعلته منذ البداية ولو أن بعض أطرافها صرفت وقتاً طويلاً قبل أن تنخرط فيها وتساعد على تعزيز مسيراتها. وينبغي ثانياً أن تؤطرها سياسياً وفكرياً، أي أن تنشئ الإطار السياسي الذي يمثل مرجعية تضمن وحدتها واستمرارها وتواصلها مع العالم الخارجي. فوجود عنوان واحد وواضح للثورة، يضم إلى جانب ممثلي شباب الثورة الأطراف الرئيسية من المعارضة الحزبية، يساعد كثيراً في كسب الرأي العام العالمي إلى جانبها ويسهل التفاهم مع أطراف النظام الدولي، مما يضمن حصول التأييد وتحقيق الاعتراف، ومن ثم توفير الكثير من الضحايا والخسائر المادية. كما أن وجود مثل هذا العنوان الواحد، يساعد في منع المتطفلين على الثورة والمندسين في أوساطها من تشويه صورتها أو الحديث باسمها لتحقيق مآرب أخرى أو التسلق عليها وحرفها عن أهدافها.
وفي هذه النقطة تكمن أزمة المعارضة السورية. فجميعنا ندرك اليوم أنه رغم كل الجهود التي بذلت، ورغم إجماع أطراف المعارضة السورية وأحزابها، من دون تمييز بين يمين ويسار، على دعم الثورة والانتقال بسوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، لا تزال وحدة المعارضة، بل توافقها على أرضية مشتركة، والتنسيق بين أطرافها في خدمة الثورة الديمقراطية، تبدو أمنية بعيدة المنال، بينما أصبح تقدم الثورة الميداني يتطلب وجود إطار سياسي موحد يصد عن الثورة الهجومات السياسية المتواصلة ويطمئن الشعب أو أجزاء كبيرة منه على المستقبل، ويفتح باب الاعتراف السياسي الواسع بالعهد الجديد خارجياً. وستزداد الحاجة إلى معارضة موحدة قوية مع تقدم الثورة وتغير ميزان القوى وترنح النظام وتطلع الأطراف التي كانت تراهن عليه إلى التحلل من التزاماتها تجاهه، والتطلع إلى المستقبل. بمعنى آخر، لا يمكن من دون معارضة قوية ومنظمة في جبهة أو إئتلاف، قطف الثمار التي أنضجها كفاح الشباب السوريين بدمائهم وأرواحهم. وكل تأخر في تشكل مثل هذه الجبهة (المرجع) يعني بالنسبة لهم وللسوريين جميعاً تأخيراً في موعد النصر وتفريطاً بهذه الدماء والجهود العزيزة والتضحيات التي لا تقدر بثمن.
من هنا، لم يعد الأمر يحتمل الانتظار، وأصبح من الضروري التفكير ملياً في واقع المعارضة والعوائق التي تمنع المعارضين من التوافق على برنامج عمل مشترك وتكوين هيئة وطنية قادرة على حمل مسؤولية التغيير الديمقراطي المنتظر وانتزاع نصر للشعب السوري يستحقه، وتلك العوامل التي تفسر عجز المعارضة السورية عن الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التي تطرحها عليها الثورة الحالية وقد ضربت أعظم الأمثلة في التضحية والفداء ونكران الذات! هذا ما سوف أتناوله في مقال قادم.