نظام الحرب والغنيمة
كل جمعة ينزل فيها المتظاهرون إلى الشوارع غير عابئين بآلة القتل، بعد نهار سابق مغمور بالدم، كنا نقول إننا عبرنا عتبة الخطر، وإن إرادة الحرية التي تسكن شبابنا أقوى من الرصاص الحي الذي يوجهه "ملوك الطوائف" إلى صدور أبنائنا. لكن في كل مرة كان الطرف الآخر يفاجؤنا بإرادة العنف التي لا تعرف الحدود، ويوجه لشبابنا تحدياً أقسى من السابق. وهكذا منذ ثلاثة أشهر من تاريخ الاحتجاجات السورية وحتى جمعة أطفال الحرية (31 مايو 2011)، كانت السمة الرئيسية للمواجهة هي التصعيد المتبادل: النظامُ بالعنف وإراقة المزيد من الدماء لكسر إرادة شعبنا، والشباب بالتضحية وروح البطولة والفداء في سبيل المحافظة على ديناميكية الاحتجاجات وقهر إرادة الاستبداد. وبسبب تحول النظام إلى مجموعة من المصالح الخاصة التي ليس لها هدف سوى الدفاع عن نفسها مهما كانت العواقب، وتخليه عن كل وظائفه السياسية الطبيعية، وأهمها التوسط بين الأطراف لدرء الحرب والحد من استخدام العنف، دخلنا في سياق مواجهة شاملة من نوع كسر العظم التي لا يمكن لأحد أن يتراجع فيها من دون أن يخسر كل رهاناته ويتعرض لهزيمة ساحقة. هذا كان اختيار النظام، أو بالأحرى هذه نتيجة ابتعاده كلياً عن معاني السياسة ومفاهيمها وتحوله إلى آلة في خدمة مجموعات مصالح خاصة.
ومن خلال هذا التصعيد المتبادل: النظام في توسيع دائرة القتل وأدواته وأساليبه، والحركة الثورية في تقديم المزيد من الضحايا ومواجهة الموت بصدور عارية، تبلورت حقيقتان أبرزتهما "جمعة أطفال الحرية"، وأكدت عليهما "جمعة البشائر": حقيقة النظام بوصفه نظاماً خارجياً لا يربطه رابط أخلاقي أو سياسي بالشعب، وبالتالي لا شيء يردعه عن الولوغ بدمه وقتل أبنائه. وحقيقة الشعب الذي يتصرف من خلال شبابه المتظاهرين كما لو أنه وضع جميع رهاناته في الاحتجاج السلمي، وصمم عليه كخيار وحيد.
هذا هو المغزى الرئيسي الذي تأكد منذ "جمعة أطفال الحرية" التي وضعت وجهاً لوجه، كما لم يحصل في أي جمعة سابقة، عنف النظام ومقدرته على البقاء من وراء آلته العسكرية من جهة، ونمو روح الفداء والتضحية وبذل النفس لدى أبناء الانتفاضة تأكيداً على حقهم في الحرية والكرامة والاستقلال والسيادة من جهة ثانية. كانت هذه هي سمة الصراع منذ البداية، لكن "جمعة أطفال الحرية" أظهرتها كما لم تكن واضحة من قبل، فبدى "شبيحة" السلطة على حقيقتهم من دون أقنعة ولا ذرائع، يقفون في مواجهة المتظاهرين ويطلقون النار عليهم، وفي أحد الأفلام التي عرضتها التلفزة كان هناك جندي يشير على مسلح باللباس المدني إلى متظاهر كي يقتله. بينما استقطب شباب الانتفاضة في هذه الجمعة الدامية قطاعات جديدة ودخلت الاحتجاجات مدناً وأحياء وقرى لم تكن قد دخلتها من قبل. وها هي تبلغ ذروة جديدة بمظاهرات حماة وحمص والمناطق الأخرى في الجمعة الأخيرة.
كان من المتصور أن تصل السلطة خلال الأسابيع الماضية إلى استنتاج باستحالة القضاء على الاحتجاجات، وأن الحل الأفضل لأصحاب السلطة أنفسهم، أن يبادروا بسرعة إلى تفكيك دينامية العنف، والشروع من دون إبطاء في تغيير سلوكهم وتغيير القوانين والممارسات والأوضاع التي قادت إلى هذا الغضب الشبعي ولا تزال تلهبه. لكنهم اختاروا الاستمرار في المناورة من خلال ما سموه "لجنة الحوار"، وهي الثانية بعد موت الأولى قبل أن تجتمع، وتكليف رجال من حزب "البعث" وشبه الأحزاب التي بررت احتكاره للسلطة خلال عقود، بقيادة هذا الحوار! لم يكتفوا بذلك فحسب وإنما أرفقوا الإعلان عن هذا الحوار -من دون ذكر الطرف الآخر الذي يريدون الحوار معه أو تعريف هويته- بتوسيع دائرة استخدام العنف ومحاصرة المدن والفتك بالمتظاهرين وتشريد المواطنين، وألحقوا كل ذلك بإعلان عضو القيادة القطرية محمد سعيد بخيتان رفض النظام التخلي عن المادة الثامنة من الدستور التي تنص على قيادة "البعث" للدولة والمجتمع! وكان هذا يعني بكل بساطة أن السلطة لا تزال بعيدة عن روح الحوار، وأن ما تهدف إليه من إعلان تكوين اللجنة هو التغطية على تصعيد عمليات القتل والقهر والاضطهاد والتنكيل والعقاب الجماعي الذي تتعرض له المدن السورية واحدتها بعد الأخرى. فالسلطة تعرف أن مثل هذا الحوار وفي مثل هذه الشروط والظروف لن يقبل من أحد، ولا حتى الراغبين في التعاون مع السلطة لتخفيف الضغط عنها، فما بالك بممثلي الشباب الذين فقدوا مئات الشهداء من رفاقهم وأصدقائهم وإخوانهم في أكثر المواجهات دموية على الإطلاق.
منطق النظام لا يزال هو ذاته منذ عقود. وهو يقول إن السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى. والسياسة هنا هي الحوار الذي يلوح به نظام فقد ثقته بنفسه وبقدرته على البقاء، وقرر الاستمرار على مبدأ "إما قاتلاً أو مقتولاً"!
قد يستغرب المرء غياب منطق السياسة عند أصحاب النظام السوري وثقتهم بمنطق الحرب. لكن الواقع أنهم لم يعرفوا أبدا معنى الحكم السياسي. فهم يدينون بوجودهم في السلطة لانقلاب عسكري وانقلاب عسكري داخل الانقلاب، كما يدينون لاحتفاظهم بالسلطة إلى حرب معلنة دائمة على شعبهم منذ الأيام الأولى لوصولهم إلى السلطة. و"علاقة الحرب" التي أقاموها مع شعبهم هي التي تفسر الإبقاء على حالة الطوارئ معلنة لما يقارب نصف قرن، كما تفسر الانحراف السياسي والعصبوي، وإلغاء الحياة السياسية من الجذور، والاستثمار المفرط في وسائل القمع والإقصاء والاضطهاد الداخلي، كما تفسر الطريقة التي استتبع بها النظام بقية القوى السياسية والأحزاب التقليدية أو جزءاً منها عبر ما سماه "الجبهة التقدمية" الرديفة. وأخيراً منطق الحرب هو نفسه الذي يفسر المأساة الوطنية التي شهدتها مدينة حماة وشعبها في الثمانينيات، كما يفسر السهولة التي يطلق بها قادة السلطة النار على أبناء وطنهم، وروح التعالي التي يظهرونها تجاه بني جلدتهم. ومنطق الحرب الذي حكم علاقتهم بهذا الشعب وبلاده هو الذي يفسر ما ساد من فساد في أوساط مجتمع الحكم والنخبة بمقدار ما حولت السيطرة المادية والعسكرية الساحقة، وهزيمة الشعب، والنجاح في التحكم بحياة الناس وحقوقهم، البلادَ إلى غنيمة حرب بالمعنى الحرفي للكلمة. وهم عندما يقاتلون الشعب السوري اليوم فإنما يدافعون عن الغنيمة التي انتزعوها بسيوفهم، وهم غير مستعدين للتخلي عن أي ذرة منها بغير العنف والدم. وهم لا يعرفون أن يتعاملوا مع شعبهم إلا كشعب مهزوم، وأي تمرد من قبله أو مطالبة بحقه تعني انقلاب الأوضاع، وخيانة التاريخ!
وبالمقابل، فنظام الحرب والغنيمة هذا هو ما يريد السوريون تغييره اليوم، كشرط لولادة نظام الحرية والأمن والسلام والحق والقانون، نظام الحضارة والمدنية.