مؤامرة أم احتجاج؟
بعد شهرين على اندلاعها، لا تزال الأزمة السورية تراوح مكانها، ولا يزال القتلى من أبناء الشعب يسقطون كل يوم، ولا تزال محاصرة المدن وعمليات الدهم والاعتقال مستمرة في أكثر من مدينة وبؤرة احتجاجية. وبينما يلوذ المسؤولون السوريون بالصمت ويتركون لقوات الأمن والجيش والميليشيات التابعة للسلطة أن تقوم بدورها في مواجهة الاحتجاجات السلمية، لا تكاد تبرز على الساحة العربية والدولية أي بارقة أمل تسعف الشعب السوري، أو تخفف عنه مصائب الانزلاق نحو حرب داخلية لم يخترها، ولا فكر فيها من قبل. هكذا قررت المنظومة الدولية ترك الشعب السوري يواجه وحده آلة أمنية عمل على تطويرها وتحديثها نظام قائم منذ 48 عاماً دون انقطاع. وغياب أي رد من قبل الأمم المتحدة وأمينها العام على رفض الحكومة السورية السماح للجنة تقصي الحقائق عما يجري في المدن السورية المحاصرة منذ الأسبوع الماضي، هو غياب لا يدفع للقلق فحسب وإنما يطرح تساؤلات حول مصداقية المنظمة الدولية وأمينها العام ذاته.
ويثير هذا التدهور في الأوضاع، والتفاقم في الأزمة، تساؤلات كثيرة لدى الرأي العام السوري عموماً، حول حقيقة نوايا النظام السوري تجاه مسألة الإصلاح، وموقف الدول العربية والمنظومة الدولية منها، وحول ما حققته الحركة الاحتجاجية السورية حتى الآن، وما يمكن أن تحققه مستقبلاً، وحول الاستراتيجيات الأمثل التي ينبغي تطويرها للرد على التحديات المباشرة؛ سواء ما تعلق منها بتصميم السلطات السورية على استخدام القوة ضد المسيرات السلمية، مهما كلف ذلك من ضحايا، أو ما تعلق بمخاطر الانزلاق نحو العنف والفتن الطائفية التي تقود إليها المواجهة العسكرية التي تفرضها السلطة على المحتجين، أو بالموقف السلبي الذي يقفه المجتمع الدولي إزاء طموحات الشعب السوري في الوصول إلى الديمقراطية.
لا يكف مؤيدو النظام في الداخل والخارج، وأجهزة الإعلام التابعة له قبل أي طرف آخر، عن التأكيد على أن لدى النظام برنامجاً إصلاحياً كاملاً وجاهزاً، وأنه مصمم على تطبيقه. لكن هذا التطبيق لا يزال ينتظر منذ شهرين قاسيين مرا على البلاد، ولا يزال أصحاب القرار يأملون بأن ينجحوا في وقف المسيرات الشعبية حتى يتسنى لهم فرض "الحوار الوطني" الذي يتلاءم والحفاظ على جوهر النظام، بحيث يكون لهم حق تحديد هدف الحوار وأجندته والأطراف المشاركة فيه وشروطه. وربما يأمل بعضهم أن يستطيع تجاوز الحركة الاحتجاجية الشعبية بأكملها، ليقتصر الحوار مع عناصر من المعارضة الحزبية، وينجح بذلك في الالتفاف على المطالب السياسية الوطنية الحقيقية، وفي تحويل الحوار إلى الأمور المطلبية التي تخص الفئات المختلفة أو المحافظات أو الأمور الجزئية.
ومما يزيد انعدام ثقة الحركة الاحتجاجية الشعبية بنوايا الحكم، التضخيم المفرط لحجم المؤامرة الأجنبية، والاستخدام المتزايد للعنف الذي تواجه به المسيرات، والذي جعل عدد الضحايا يتزايد باستمرار كل جمعة احتجاج عن الجمعة السابقة لها. وما يلفت النظر بالفعل هو أن المؤامرة التي بدأت بالحديث عن جماعات قليلة غير خاضعة للسيطرة، تطلق النار عشوائياً على المحتجين وعلى قوات الأمن من دون تمييز، تبين أنها هي نفسها من شبيحة رجال الأمن... قد تحولت منذ ثلاثة أسابيع إلى ما يشبه المواجهة العسكرية بين جيشين، جيش السلفيين الذين يريدون أن يقيموا في كل مدينة سورية إمارة إسلامية، على طريقة "طالبان"، والجيش السوري الذي نزل إلى المعركة بفرق كاملة العدة! واليوم باتت السلطة تنزع إلى اعتبار كل متظاهر عضواً فاعلاً في مؤامرة تشارك فيها دول عدة، عربية وأجنبية، لتمزيق سوريا والنيل من سياستها الوطنية! فالمسيرات السلمية والمؤامرة الأجنبية شيء واحد، وهو ما يبرر محاصرة المدن وإغلاقها والقيام بعمليات تمشيط دورية للقضاء على الناشطين أو اعتقالهم وإيداعهم في السجون.
والملفت للنظر أن هذه المظاهر الضخمة للمواجهة التي وضعتها السلطة السورية في إطار الحرب على الإرهاب والتخريب، والتي تشمل تحريك قطعات عسكرية كاملة، ومحاصرة مدن، وقتل مئات الأفراد، واعتقال الآلاف... لم تستدع من المسؤولين أي بيان رسمي يبرر هذا الاستخدام الواسع للقوة، ويقدم أدلة ولو نسبية لوجود مثل هذه المؤامرة، ويسمي منظمات أو بلداناً متورطة فيها. كل ما نعرفه عن هذه المؤامرة يأتي عبر أجهزة الإعلام السورية وبعض اللبنانية فحسب. والملفت للنظر أيضا أن هذه الاتهامات الخطيرة التي تطلقها الأجهزة الإعلامية التي لا يمكن أن تلزم الحكومة السورية رسمياً، تتهم دولاً عربية أعلنت دعمها للنظام في وجه الاحتجاجات، وتبنت فكرته عن المؤامرة، وساندته في مواجهتها. والاتهامات تشمل كذلك دولاً أجنبية على رأسها الولايات المتحدة، بينما يتعرض أوباما لانتقادات في واشنطن بسبب تقاعسه عن اتخاذ موقف مما يجري في سوريا، ورغم تأكيد هيلاري في آخر تصريح لها منذ أسبوع بأن الأسد لا يزال رجل الإصلاح، تأكيداً لعدم تبنيها أي مشروع لإسقاط النظام السوري أو حتى زعزعته!
لا يمكن أن نستبعد أن بعض الأفراد الذين فقدوا أبناءهم، أو بعض المتعصبين من كل الطوائف، قد استخدموا هنا وهناك العنف بأشكاله المختلفة، بما في ذلك إطلاق النار على قوى الأمن. لكن هذه تبقى أحداثاً فردية عابرة وثانوية، أغلبها رد فعل على مبالغة الأمن في استخدام العنف، ولا يمكن أن تمس بالطبيعة السلمية للمسيرات الشعبية، والتي لم تكف عن ترداد شعارات السلمية والوحدة الوطنية ونبذ الفرقة الطائفية أو الإثنية.
لن تستطيع مسرحية المؤامرة أن تغطي إلى الأبد على احتجاجات السوريين من أجل الحرية والكرامة، والتي لا تزال مستمرة منذ شهرين متواصلين، وهي في توقّد، ولن تتوقف قبل أن يحقق الشعب السوري ما أصبح يعتبر مطلباً أساسياً له، أعني حياة ديمقراطية كاملة، يسودها نظام حكم القانون الذي يحقق الأمان والاستقرار بدل حكم الأجهزة الأمنية الهادف إلى ترويع السكان وابتزازهم، ويتمتع في ظلها كل فرد بحقوق متساوية، ويشارك على قدم المساواة في اتخاذ القرارات التي تهم حياته وحياة الجماعة الوطنية بأكملها. وربما كانت المهمة الرئيسية للشباب وجميع فئات الشعب السوري في الأيام والأسابيع القادمة، التضامن والتكاتف والعمل المشترك من أجل إحباط المؤامرة الفعلية القائمة، تلك التي تسعى -من خلال الترويج لفكرة المؤامرة- إلى تشويه سمعة المسيرات الشعبية وعزلها في أوساط الرأي العام السوري والعالمي.
الكلمة كانت ولا تزال للشعب السوري، ولأولئك الذين لم يتحدثوا بعد وهم لا يقلون شوقاً إلى حياة الحرية والكرامة ذاتها التي بذل أبناؤهم ولا يزالون يبذلون أرواحهم الغالية في سبيلها.