الخصوصية السورية
كنت دائماً أقول إن مشكلة النظام السوري هو أنه يفتقر إلى الحلقة الرئيسية التي تجعل من أي حكم حكماً سياسياً. وكل سياسة قائمة، بعكس الحرب، على تفاعل بين أطراف يعترف كل واحد منهم بالآخر، حتى لو فرض عليه صورة مشوهة لهويته، أو تعامل معه بأقل مما هو عليه بالفعل. وكل تفاعل يفترض الأخذ والعطاء، أي حد من المرونة لا يمكن من دونها التوصل إلى حلول سياسية، أي سلمية لا تستدعي استخدام العنف والقوة. وكل مرونة قائمة على قدر من الاستعداد للتراجع والتقدم، كما وصفها معاوية عندما تحدث عن الشعرة التي لو كانت بينه وبين الناس، أي الطرف الآخر، وبشكل خاص معارضيه في ذلك الوقت، لما انقطعت. باختصار السياسة تقدم للحكم القائم بالضرورة على هيمنة طرف على طرف آخر والتحكم بالقرار المتعلق بحياة المجموع أو المجتمع أو الشعب، استعدادات ومبادئ وقواعد ومؤسسات للتوسط بين الأطراف، وللمناورة والمداورة بحيث يصل فيه كل طرف من الأطراف المتنافسة إلى أهدافه، كلها أو بعضها، من دون الاضطرار إلى استخدام القوة أو تعريض نفسه لسيف العنف. وهي تفترض قبل هذا وذاك الاعتراف بأن هناك أطرافاً مختلفة، أي اعتراف الطرف السائد والحاكم بوجود الطرف الآخر، وأن له حقوقاً ومصالح مشروعة، حتى لو كان هدفه إخضاعه وفرض تسويات مجحفة بحقه.
بهذا المعنى وجدت السياسة لتكون بديلاً للحرب في علاقة الأطراف والجماعات والطبقات والطوائف والعشائر فيما بينها.
وتبدأ المدنية عند الشعوب في الوقت الذي تبدأ هذه الشعوب بالكف عن اللجوء السريع والسهل إلى القوة لحل نزاعاتها، سواء من أجل تأمين الموارد اللازمة لمعيشتها، أو لفرض قسمة تمكنها من الحصول على حصة الأسد من الموارد المتاحة وحرمان الآخرين منها أو من القسم الأكبر منها. وهذا يفترض أن شروط الفعل السياسي (التفاوض) المختلف تماماً عن الفعل العسكري (استخدام العنف) قد توفرت، وأن الشعوب قد نضجت، بعد معاناة طويلة، في ميدان الوعي وإدراك وحدة المصالح والأهداف. وبالدخول في مشروع بناء الدولة، الممالك الصغيرة أولاً، ثم الامبراطورية الواسعة التي تعني قبل أي شيء آخر وجود سلطة مركزية مسلحة بقانون أو بشرعة مقبولة تشكل مرجعاً للسلطة والشعب معاً، تضبط من خلالها النزاعات وتنازع المصالح، وتجعل الخضوع للقانون، أي لإرادة الدولة التي تطبقه، منطلقاً للسلام والاستقرار والسلم الأهلي.
وعندما نتحدث عن القانون الذي هو أهم مقتضيات السياسة ومكوناتها فنحن نتحدث في الوقت ذاته عن الحق الذي يدور حوله الفعل السياسي بأكمله، أي حق كل فرد تجاه الجماعة وتجاه الأفراد الآخرين، ونتحدث أيضاً من ورائه عن مفهوم العدالة التي هي احترام الحق، كما حدده القانون، وهو ما ينظر إليه المجتمع، في حقبة معينة، كتجسيد للعدالة.
وكل نظام وجدت فيه أداة التوسط السياسية هذه، أي حقل سياسي متميز عن حقل الحرب ومستقل عنه، مهما كانت مساحته، قادر على التحرك والتفاعل والتطور. لأنه يملك الجهاز الذي يسمح له بقياس موازين القوى ونوعية الضغوط التي قد تقود إلى العنف وتلك التي يمكن التغاضي عنها من أجل تجنبه. من هنا لا تستقيم السياسة من حيث هي إيجاد الحلول للنزاعات والخلافات عن طريق التفاوض لا عن طريق العنف من دون تطوير نمط من المنطق والعقل السياسيين، أي من فهم شروط العمل لتوحيد المجتمعات أو ضمان استقرارها مع الاعتراف بحق كل طرف في النزاع السلمي والتنافس لضمان مصالحه والدفاع عن حقوقه، ولتحسين شروط حياته. فالسياسة وحدها هي التي تضمن الوحدة داخل التعدد، وتمنع النزاع من التحول إلى انقسام ومواجهة شاملة في مجتمع هو بالضرورة متعدد المصالح والأطراف والتشكيلات. وكلما تطورت بنية العمل السياسي في نظام اجتماعي تعمق الاستقرار، وابتعد احتمال النزاع العنيف والمسلح، ونعم أفراد المجتمع بدرجة أكبر من الثقة والأمل الضروريين لتشجيع الاستثمار وبذل الجهد والإبداع.
وبالعكس، يشكل تفكيك البنية السياسية وتفريغ الأجهزة المرتبطة بها من مضمونها الهدف الأول لأي نظام اجتماعي قائم على الاحتكار وسيطرة فئة واحدة على حساب الفئات الأخرى، وتحويل السياسة إلى استيلاء والشرعية إلى خضوع بالقوة. في هذه الحالة تعود العلاقة بين الأطراف إلى مستوى الصفر السياسي، ولا يضمن استمرارها سوى الاستخدام المنظم أو الاعتباطي للعنف، وهدم القانون أو تفريغه من مضمونه، ومعه مبادئ الحق والعدالة وأدوات التفاوض السلمية من حرية التعبير والتنظيم والتظاهر وغيرها. في هذه الحالة تتوحد السيطرة القائمة مع مصالح طرف واحد وتتطابق معها، ولا تبقى وسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية سوى العنف، وأسوأ أشكاله العنف الأعمى والمجاني، أي الفوضى. وهو ما تلجأ إليه عادة سلطة النظم القهرية عندما تمر بأزمة خطيرة.
بغياب بنية سياسية تسمح بالتوسط بين السلطة والشعب وبين فئات المصالح المختلفة والمتعددة يختصر النظام إلى حلقتين مترابطتين: مركب من المصالح، وهنا مصالح فريق يجمع أصحاب السلطة مع أصحاب الثروة مع أصحاب السلاح مع أصحاب الحزب والإدارة البيروقراطية، وذراع أمنية مكونة من أجهزة متعددة الأشكال والوظائف تؤمن لهذا المركب سيطرة شاملة وكاملة ومستمرة، لا تقبل النقاش ولا المراجعة ولا المنافسة ولا الاعتراض.
هذا هو الذي يفسر المكانة الاستثنائية الطاغية التي تحتلها أجهزة الأمن أو الترويع، والجاهزية والشمولية والسرعة التي تتحرك بها أذرعها المتعددة في كل لحظة يشعر فيها النظام بالتحدي. والتحدي لا يعني هنا وجود خطر يهدد النظام، ولكن كل ما لا يصدر عن النظام أو لا يكون تحت إشرافه وسيطرته، ربما مقالة نقدية لكاتب أو انتشار خبر أو كتابة شعار على جدار، فما بالك عندما يتظاهر آلاف الناس في الشوارع. هذا في منطق النظام القائم على الحرب ومنع أي تعبير مهما كان ضئيلا ًعن الخلاف والاختلاف عما يقوله النظام، مؤامرة حقيقية. وهذا هو الذي يفسر ظاهرتين مترابطتين ومتكاملتين في هذا النوع من الأنظمة: التقديس الكلي لشخص الرئيس، يمنُ ويفرض ولا يحاور ولا يناقش، وهوس التآمر والمؤامرة الخارجية الذي رافق النظام منذ نشأته ولا يزال. فالاستقرار قائم على منع أي تعبير عن الاختلاف مهما كان حجمه، وظهور الاختلاف لا يمكن إلا أن يكون نتيجة مؤامرة، وهو ما يبرر عمليات التطهير السياسي، والتي تشكل السياسة، أو الفعل السياسي الأصيل الوحيد في النظام. فبغياب البنية السياسية كحلقة توسط بين سلطة المصالح والمجتمع، لا يبقى سوى منطق الحرب الدائمة والمستمرة كوسيلة لضبط الأوضاع وتجميدها ومنع أي طرف اجتماعي، بل حتى فرد، من حيازة أي موارد يمكن أن تقلل من احتكار النظام الحصري لموارد القوة: من الكلمة إلى المعلومة إلى المناصب الإدارية والحريات السياسية.