الأزمة السورية والمخرَج السياسي
ما حصل ويحصل في سوريا لا يختلف عما حصل في غيرها من البلاد العربية التي سبقتها، في انتشار حركة احتجاج أودت بنظام الحكم أو هزته في أحسن الأحوال، ووضعت مكانه نظاماً جديداً يستمد شرعيته من الشعب، ويعد بتحقيق القيم الإنسانية ذاتها في الحرية والعدالة والمساواة. وإذا كان هناك جديد في الحالة السورية فهو يتعلق بالسؤال عن السبل التي ستقود هذه الثورة إلى أهدافها، إن كانت سبلاً سلمية نابعة من التفاوض السياسي على أجندة الانتقال وشروطه نحو الديمقراطية، أم أنها ستكون عنيفة يرافقها ما نشهده اليوم في دول عربية أخرى، وبشكل خاص في ليبيا التي أدت فيها غطرسة القوة لدى النظام إلى إدخال البلاد في مفازة صعبة بمقدار ما وضعت مصيرها في أيدي القوى الأجنبية وربطته بالحرب الداخلية وتجارة السلاح والنفوذ العالميين.
حتى الإعلان عن رفع حالة الطوارئ وإلغاء محاكم أمن الدولة التي خضعت لها سوريا منذ أكثر من نصف قرن دون انقطاع، كان من الواضح أن السلطة السورية لا تريد أن تلعب اللعبة السياسية، أي أن تأخذ وتعطي، وتقصدت أن تظهر الصرامة وعدم الاكتراث. بل اتخذت موقف التحدي والتصدي للمطالب الشعبية المشروعة، وحاولت تجييش قطاعات الرأي العام المؤيدة لها أو الخائفة من صعوبة التغيير وتكاليفه، ثم انتقلت إلى التصعيد العسكري فأغلقت بعض المدن، وسعت إلى تلقين السكان درساً ربما يعيد ذكريات محنة الثمانينيات في حماة وغيرها من المدن السورية. وللتغطية على رفضها الإصلاح والتجاوب أو التفاعل مع مطالب الشعب الديمقراطية، اخترعت موضوع المؤامرة الخارجية بمشاركة عصابات منفلتة، وفرق ملثمة، ودول أجنبية، وأخيراً، حركات سلفية تقتل على الهوية، ولا تفرق بين متظاهر وضابط جيش!
هذا في الوقت الذي لم تفتقر أي حركة احتجاج عربية أخرى، كما افتقرت الانتفاضة السورية، للتعاطف من قبل الدول العربية، ومن دول أوروبا وأميركا التي لا تزال، حتى اليوم، تعلن أنها لا تريد تغيير النظام في سوريا لكنها تراهن على قواه الإصلاحية. ولم يحصل أن عومل نظام عربي، يتعرض لمعارضة شعبية سلمية قوية، بهذا المستوى من الحرص والحيادية وضبط النفس. فلم يتلق النظام تجاه الاستخدام المفرط للعنف، وإغلاق البلاد أمام الصحافة العربية والأجنبية، والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، سوى نصائح من هنا وهناك بتعجيل الإصلاح حرصاً على بقائه وخروجه من المحنة.
لقد تحولت الحرية اليوم إلى حلم كبير محرك للشباب، وهم لن يتخلوا عنه، كما يمكن لأي متصفح للفيسبوك أن يلاحظ ذلك، لأنه أصبح الحلم الوحيد الذي يعطي حياتهم ومستقبلهم معنى، ويعيد في مخيلتهم وطنهم إليهم، أو يمكنهم من استعادة الشعور بالوطن الذي حرموا منه طويلاً، بما يعنيه الوطن من أمن وأمان وتمتع بحقوق المواطنة وغيرها من الحقوق.
فالشباب العربي عموماً، لم يعد يقبل العيش في وطنه كما لو كان غريباً فيه، وليس له حق المشاركة في صنع مصيره ومستقبله. هذا وضع انتهى بعد انتصار الثورات الديمقراطية العربية الأخرى. ومن يقبل بالخنوع والتبعية والاستقالة الأدبية يشعر كما لو كان من دون قيمة ومن دون شرف الوطنية والمواطنية، وغريباً عن عالم الحضارة والمدنية. والقصد، أنه لن تستطيع أي قوة بعد الآن أن تنتزع هذا الحلم من قلب الأجيال الجديدة التي اكتشفت أيضاً وسائل جديدة للحفاظ عليه حياً، وشاهدت نماذج لثورات حققت نتائج فعلية. وهي لا تقبل بأن تعامل ومن باب أولى أن تعامل نفسها كما لو كانت أقل جدارة واستحقاقاً من شباب الشعوب العربية وغير العربية الأخرى.
هل يمكن للقرارات الأخيرة أن تهدئ من روع الشباب وتعيد الثقة للشعب بحكومته فننتقل من سياسات المناورة والمراوغة واختراع المؤامرات والفتن، إلى سياسة الانتقال السلمي، وبالتفاوض مع ممثلي الاحتجاج والمعارضة، لإيصال الشعب السوري وسوريا إلى بر الأمان، قوية بوحدة أرضها واتحاد شعبها، ومتصالحة مع نفسها وتاريخها، ومؤمنة بدورها الإقليمي البناء ورسالتها في التسامح والتناغم بين جميع المذاهب والديانات والثقافات التي تشكل هويتها الحقيقية، وعزيزة بتعلق أفئدة أبنائها بها؟
نعم، يمكن ذلك، لكن بشرط رئيسي واحد، هو أن تعترف السلطة رسمياً بأن مصدر السلطة هو منذ الآن الشعب وليس القيادة القطرية التي تحتكر الحكم حسب الدستور منذ نصف قرن، وتلغي أية إمكانية لتداول السلطة، أو حتى للمشاركة فيها مع غيرها، في الوقت الذي لايكاد المواطن يعرف شيئاً اليوم عن أعضاء هذه القيادة وأفكارهم، ولم يسمع خطاباً أو يقرأ مقالاً لأحد منهم. ويترتب على هذا الاعتراف الذي يعني رفع الوصاية الحزبية عن الدولة والشعب، الإقرار بأن الهدف من عملية التفاوض هو الوصول إلى نظام ديمقراطي منبثق من إرادة الشعب ومسؤول أمامه لا أمام أي قيادة أخرى. وبالتالي ولادة حكومة تتشكل من قبل نواب الشعب وتكون مسؤولة أمامهم وتملك جميع الصلاحيات والسلطات المتعلقة بتنظيم شؤون حياتهم. فهي وحدها التي تضمن حقوق الشعب وأمنه وحرياته أمام تعسف الأجهزة الأمنية والإدارية. وهذا يستدعي بالتأكيد، ومنذ الآن، كف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في الشؤون السياسية وإخضاعها للحكومة المنتخبة، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، ودخول المبعدين، ووقف عمليات الاعتقال والاختطاف وترويع الأفراد المستمرة إلى اليوم.
في هذه الحالة، يستمر الرئيس خلال المرحلة الانتقالية في ممارسة إشرافه على السياسات الدفاعية والخارجية التي تشكل مركز إجماع عند السوريين.
من دون ذلك تبقى مثل هذه القرارات جزءاً من لعبة سياسية هدفها الالتفاف على حركة المعارضة الشعبية، وتعزيز النظام الأمني بقوانين جديدة مطبوخة في مطبخ القيادة القطرية الشهير ذاته، تحل محل القوانين التي أسقطتها الإرادة الشعبية في الواقع قبل أن يسجل النظام على الورق صك موتها.
والسؤال الذي يطرح بعد ذلك ويطرحه جميع أبناء الشعب السوري على أنفسهم هو: ما هي احتمالات أن يتغلب العقل، وأن يقبل النظام بالتعاون مع المعارضة للدخول في مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية؟ هذا الموضوع مفتوح للأيام القادمة، والسلطة السورية هي وحدها التي تستطيع الإجابة عليه. ونأمل أن تكون إجابتها من النوع الذي يتمناه الشعب وتتوق إليه المعارضة.