الفتنة الأهلية وإجهاض الثورة الديمقراطية
فتحت الثورة الديمقراطية للشعوب العربية آفاقاً كانت الاستراتيجيات القديمة التي استخدمتها بعض حركات المعارضة السياسية قد أغلقتها عليها تماماً، إن لم تساهم في تعزيز سطوة النظم الاستبدادية من خلال ما أحدثته من شروخ ومخاوف وعداوات داخل المجتمعات. بل إن هذه الثورة المدنية التي تنادي بالكرامة، بما تعنيه من احترام للفرد الإنساني بوصفه كذلك، كما تنادي بالحرية التي تؤسس لمشاركة الأفراد بصورة متساوية في الشأن العام، أي تنشد باختصار تحقيق المواطنية للجميع، ما كان من المقدر لها أن تنطلق وتتقدم وتنتصر في بعض الأقطار العربية إلا لأنها نجحت في أن تتجاوز ثقافة العصبية وتقاليد الانقسام الحزبوية، وتضع نفسها على السكة ذاتها التي تحرك جميع المجتمعات اليوم وتدفعها للارتقاء بوعيها وثقافتها ونظم سياستها وإدارتها... إلى مستوى المبادئ والقيم والممارسات الإنسانية.
هذا هو المضمون العميق للأجندة التحررية التي تحرك المجتمعات العربية، وتسمح للأغلبية الساحقة، بعد أن هجرت الحياة السياسية، بالعودة من جديد إلى ساحة العمل الوطني والاجتماعي.
وفي تعبيرها عن التطلعات الجديدة والعميقة لهجر الأفراد معازلهم الطائفية والعشائرية التي فرضتها ظروف الشح السياسي في الماضي، تعلن هذه العودة إلى ساحة العمل العام، والاستعداد للتضحية من أجلها، بما في ذلك التضحية بالأرواح، الولادة الجديدة للوطنية العربية أو بالأحرى الشوق الملتهب إلى الخروج من ذل الزبائنية والمحسوبية، إلى المواطنة وما تعنيه من كرامة شخصية وممارسة للحرية والسيادة الذاتية.
من هنا ما كان من الممكن لإرادة الانعتاق التي تحملها المطالب المواطنية إلا أن تصطدم بأنماط من الحكم والإدارة الاستبدادية التي لا يمكن أن تستمر إلا بتحييد الشعوب عبر تقسيمها والتعامل معها بالقطعة. فالمواطنية لا تستقيم من دون الحرية والكرامة والمساواة.
وما شهدناه في الأشهر الماضية من مواجهات بين نخب الحكم التي عملت ولا تزال من أجل إبراز الانقسامات الأهلية داخل مجتمعاتها، وتفجيرها إذا ما أمكن ذلك، وبين الشعوب الناهضة والطامحة للتوحد ولفرض إرادتها... يعكس الصراع على تحديد وضعية الفرد ومكانته في بلادنا العربية: وضعية الزبون التابع لزعامة طائفته أو حزبه أو عشيرته أو زعيم دولته، والملتزم من دون تفكير بكل ما يفرضه منطق المحسوبية من ولاء والتصاق والتحام أعمى... أو بالعكس؛ وضعية المواطن الحر الذي يعرف أن شرط ممارسته لهذه الحرية واحتفاظه بها وتعزيزها والارتقاء بمستوياتها ومعانيها هو احترام حرية الآخر، وتعميم المشاركة على الجميع لتحويلهم إلى رجال أحرار، فاعلين ومسؤولين، أي واعين لمعنى الحرية المدنية والسياسية.
وكما يتطلب الحفاظ على الأوضاع وأنماط الحكم والاستبدادية، القائمة على إخراج الشعوب من معادلة السياسة والقوة، تكسير هذه الشعوب وتقسيمها وإجهاض روح الكرامة والحرية في أفرادها، وهذا ما تتكفل به العصا الأمنية الغليظة، يتطلب تحقيق المواطنية التي تجتاح بروحها اليوم الوعي العربي، الانتقال إلى نمط جديد من الحكم، وتنظيم السلطة السياسية، والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين. وهذا يعني أولاً انقلاباً أخلاقياً، يشير إلى تغير نظرة الفرد إلى نفسه ورفضه أن يعامل كتابع وزبون بدون إرادة خاصة له أو استقلال ذاتي. وثانياً انقلاباً فكرياً يدفع بالأفراد إلى الخروج عن عصبوياتهم وانغلاقاتهم التقليدية في إطار الطائفة أو القبيلة، نحو فضاءات أرحب يلتقي فيها مع أقرانه في المواطنية، ومن ورائهم، مع أبناء الإنسانية. وثالثاً ثورة سياسية تقودهم إلى التحرر من جميع الوصايات الأبوية أو الطائفية، والاندماج في مغامرة تكوين رابطة الأمة السياسية التي هي التعبير الأوضح عن الانخراط في التاريخية الحضارية. وأخيراً ثورة اجتماعية تفتح الباب أمام انفتاح الجماعات الأهلية والفئات الاجتماعية والجهوية بعضها على البعض الآخر، من دون أحكام مسبقة وحسابات ماضية أو راهنة، وتقود إلى نشوء روح جماعية جديدة، تتجدد عبرها الجماعة ذاتها وتتحول إلى جماعة وطنية.
وفي هذا الصراع، ليس لنظم الحكم الاستبدادية، والمصالح الاجتماعية المرتبطة بها، أمل في البقاء من دون إجهاض دينامية التحرر الراهن، والذي جسده شعار ثوار سوريا: "واحد واحد واحد، شعب واحد"، ومن دون إحياء ذاكرة النزاعات المأساوية القديمة، وشحن العواطف البدائية، وتخويف الكل من الكل، ووضع الناس في مواجهات طائفية أو عشائرية إجبارية تفرض على كل فرد الالتحاق بعصبيته ليضمن لنفسه الحماية التي حرمته منها الدولة. والهدف من ذلك هو إجهاض الوليد في المهد، أي شعب المواطنة الحديث الحر والمتساوي، وإكراه الجميع على الانضواء ضمن عشائرهم وطوائفهم من جديد، حتى يمكن التلاعب بانقساماتهم وفرض الوصاية الأبدية عليهم.
هذا ما سعى إليه نظام سابق حين دفع بوزير داخليته إلى تفجير إحدى الكنائس لبعث الفتنة الطائفية، وليبرهن على أن الفوضى هي النتيجة الطبيعية للحرية، ويبرر استمرار نظام القمع وضرورة تجديد البيعة للسلطة الاستبدادية. وهذا ما فعلته وتفعله أنظمة أخرى حين تهدد بالفتنة بين القبائل، معتقدة أن الولاءات القبلية ينبغي أن تكون أسبق من الولاءات السياسية الجديدة الطامحة إلى بناء فضاءات المواطنة المنفتحة، أو عبر تأليب الطوائف على بعضها البعض، وشحن مشاعر الخوف والضغينة بينها، في نفي للروح الوطنية الصاعدة على انقاض اللعب بالحزازات الدينية والمذهبية.
لم يعد لبعض الأنظمة إلا رسالة واحدة، هي تفجير مجتمعاتها من أجل الاستمرار في إخضاعها وسلب إرادتها وحرياتها ومواردها، وفرض الإذعان عليها، وشدها نحو عصور الظلام الكئيبة.
ورغم أني على ثقة بأن الشعوب لن تضحي بحرياتها المنشودة وحلمها بحياة جديدة حرة وكريمة في سبيل حسابات قديمة وانتقامات لا أخلاقية وتافهة، إلا أنه لا تنبغي الاستهانة بما يمكن أن تفعله نخب فقدت صوابها، ولم يكن لديها يوماً شعور بالمسؤولية تجاه بلدانها. وما فعله القذافي وأفراد عائلته الذين ورطوا شعبهم في حرب جرّت عليه الدمار وكرست التدخل الدولي في شؤونه، لا يزال ماثلاً أمامنا.
باسم هذه الشعوب المقهورة وحقها في العيش بسلام وحريةٍ، أدعو المثقفين العرب إلى أن يرفعوا عالياً راية المقاومة لاستراتيجيات الفتنة الأهلية هذه، وأن يدينوا بصوت مرتفع أصحابها من النظم التي تفضل تدمير بلدانها على فتح باب المشاركة في السلطة لشعوبها.