ممانعة الثورة والحاجة لفهم الشعوب
لم يعد هناك من يشك أمام منظر الثورات المشتعلة في أكثر من قطر، وبعد انتصار ثورتي تونس ومصر، أن انقلاباً تاريخياً كبيراً قد حصل في المنطقة العربية لم يعد من الممكن تجاهله أو بالأحرى الرجوع عنه. ولا يمكن لأي نظام أن يتجنب آثاره ما لم يبادر هو نفسه بعملية إصلاحية تضع البلاد على الطريق الذي رسمته الثورة. فقد دخل العرب، نفسياً وفكرياً وسياسياً، في تاريخ جديد؛ تاريخ الحرية الذي حيل بينهم وبينه لعقود طويلة. ومن لا يدرك معنى هذا التحول أو يرفض النظر إليه، سيعيش في عالم ليس له علاقة بعد الآن بعالمنا الراهن. فهناك اليوم في سياساتنا عصر ما قبل التاريخ وعصر التاريخ ثم ما بعد التاريخ. وقمع الانتفاضات الشعبية، وما بالك بمواجهة الاحتجاجات الصغيرة بالحديد والنار، لا يعمل إلا على تعميق شعور الناس بهذه الحقيقة البدهية، ويفاقم من سخطهم على أوضاعهم وعلى من أصبح أكثر من أي وقت سابق عقبة في وجه تقدمهم واستقلال إرادتهم واندراجهم في التاريخ.
ولأن شعوباً عربية كثيرة لن تقبل بعد الآن العيش في شروط العهد السابق، إذ سيبدو القبول بمثل هذه الشروط برهاناً على انحطاطه الأخلاقي والسياسي وشهادة على قلة حيلته وانعدام كرامته، فستجد معظم الأنظمة الاستبدادية نفسها مهددة لا محالة بحركات الاحتجاج، وستتعرض لضغوط متواصلة من قبل قطاعات متزايدة يضاعف من اندفاعها نحو المشاركة السيل المتواصل من صور الشعوب المناضلة من أجل حريتها. وأمام إرادة التحرر والتصميم وقبول التضحية في سبيل إدخال المجتمع في عهد الحرية الجديد، لن يزيد قمع هؤلاء إلا في إلهاب روح الثورة وتغذيتها. فلن تستطيع الشعوب، بعد كل ما جرى ويجري على امتداد الساحة العربية، وما تحقق من انتصارات، أن تقاوم إغراء المحاولة والتحرش بالسلطة واستفزازها والهجوم عليها. وليس أمام السلطة الاستبدادية التي فقدت هيبتها بعد ما ظهر فسادها المرعب وعماها السياسي واستعدادها لتعريض البلاد لكل الأخطار والتدخلات، سوى أحد خيارين: تجنب الصدام مع القوى المتظاهرة، وهذا ما سوف يترجم بسرعة إلى ضعف ويشجع على خروج الجماهير، أو أن تقمع التظاهرات والاحتجاجات وتكبدها خسائر كبيرة. وفي هذه الظروف التي نعيشها، أعني الدخول في التاريخ الجديد والزمانية الثورية التي تلف المنطقة، لن تكون نتائج القمع سوى تعميق الشعور بالمهانة وبغربة النظام وقطيعته مع الشعب، ومن وراء ذلك استدراج مزيد من الجمهور المتعاطف مع الضحايا.
في هذه الحالات الاستثنائية إذن تسقط قوة الردع التي كانت للقمع في الحقبة السابقة. أما الحوار الذي تدعو إليه السلطة القهرية فليس له في السياق الراهن أي قيمة سياسية، ولا يمكن أن يخدع إلا الداعين إليه الذين بخلوا به على شعوبهم خلال عقود طويلة وكانوا لا يكفون عن ممارسته مع إسرائيل.
من هنا يخطئ أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون الفكاك من الاستحقاقات التاريخية لأن لديهم فائضاً من القوة والعنف، وأن شيئاً لا يمنعهم من استخدامه، أو أن في أيديهم وسائل عظيمة لتشويه الحقائق والكذب والغش. فلم يعد لكل ذلك أي مفعول، وهو بدل أن يخدع أعداءهم، أي الناس الأحرار، يحول أصحابه، هم أنفسهم، إلى ما يشبه النعامة التي تدفن رأسها في الرمال للخلاص من خطر داهم.
ولعل التجربة الليبية هي التي تقدم الدرس الأهم في هذا المعنى. فلم يعمل الاستخدام الصريح للعنف، الذي وصل إلى حد إعلان "قائد ثورة الفاتح" الحرب الرسمية على شعبه، وعدم التردد في قصف مدنه وقراه بالطيران والمدفعية، على تعزيز سلطة نظام القهر الليبي وهيبته، بل سرّع في سقوطه سياسياً وأخلاقياً، وجعل من التعاون العربي والعالمي للتخلص منه هدفاً مشتركاً لجميع الدول، بما فيها تلك التي لا مصلحة لها في الثورة القائمة، ودفع الكثيرين من العرب إلى المخاطرة بقبول التدخل الأجنبي على أنه مساعدة إنسانية.
لكن هل يحق لنا أن نحلم بأن يبادر نظام حكم اعتاد التعامل مع شعبه كعبيد أو كأتباع وزبائن، يستمد مجده من إذلالهم، ويجمع ثروته من تعظيم عذاباتهم اليومية، إلى الانقلاب على ذاته والقيام بثورة على نفسه، ثورة توفر على الشعوب الدماء الزكية وعلى البلاد الخسائر المادية ومخاطر الانهيارات الاقتصادية وربما التدخلات الأجنبية؟
هذا هو التحدي الذي تواجهه الشعوب ويواجهه التاريخ اليوم إلى أولئك الحكام الذين لا يزالون، بعد ثلاثة أشهر من الثورة المستمرة في العواصم والمدن العربية، يراهنون على مقدرة أجهزتهم الأمنية وتحالفاتهم الخارجية على مقاومة طوفان الحرية. لسوء حظ الشعوب العربية، يبدو أن بعض أولئك الحكام لم يفهموا أو لا يريدون أن يفهموا معنى ما يجري في بلدان حكموها منذ عقود من دون أن يعيروا شعوبها لفتة واحدة. ولو فعلوا لأدركوا، كما أدرك جميع الناس من حولهم، هذه الحقيقة البدهية التي لم يكف ملايين العرب عن تردادها منذ شهور: الشعب يريد تغيير النظام، أي ببساطة يريد تغيير أسلوب الحكم، يريد المشاركة، يريد الحرية، يريد الكرامة، يريد الاحترام. هل في هذا ما يستعصي على الفهم؟ وهل جواب هذه المطالب يحتاج إلى مثل هذه الحشود الأمنية والعسكرية، وقتل الأبرياء وملء السجون بالأطفال والنساء والرجال؟ وهل بمثل هذه الوسائل تردم الهوة السحيقة بين الحكومات العربية وشعوبها؟