اغتيال "تيسير" وخطر تسليم باكستان للمتطرفين
في إحدى ساحات هذه العاصمة الباكستانية الهادئة، يتجمع بضع عشرات من الناس مساء كل يوم بالمكان الذي تم فيه قتل حاكم إقليم البنجاب سلمان تيسير في الرابع من يناير. إشعال الشموع لا يشير إلى حزن على الرجل فحسب، وإنما أيضاً على النقاش المفتوح والتعاطف الديني اللذين ضاعا مع اغتيال السياسي الليبرالي المعروف بمواقفه الصريحة.
وعلى بعد أربعة وعشرين كيلومتراً في شارع تقطنه الطبقة الوسطى بمدينة "روالبندي"، يتقاطر آلاف الأشخاص كل يوم على منزل ممتاز قدري، الحارس من نخبة الشرطة الذي قتل تيسير. وهذا الرجل مسجون الآن، ولكن المكان تحول إلى مزار لما يعتبره كثير من الباكستانيين عملاً بطولياً ضد كافر أساء إلى الرسول؛ بل إن أحدهم قام بتعليق ملصقات تُظهر "قدري" ممتطياً جواداً أبيض يسير نحو الجنة.
خلال الأيام التي أعقبت مقتل تيسير، تحولت باكستان إلى بلد مختلف؛ حيث زالت مظاهر الديمقراطية الغربية؛ ودفع الخوف النخبة الليبرالية إلى اللوذ بالصمت، وانسحبت الحكومة المدنية بسرعة من الحديث عن الأخلاقيات والسلطة والقانون. وبالمقابل، أخذت المجموعات المتطرفة الإسلامية، التي كانت توصف في يوم من الأيام بأنها لن تستطيع الفوز بأكثر من بضعة مقاعد في البرلمان، تملأ الشوارع، وأتباعها يحملون الأعلام، ويرددون هتافات مثل جموع في مسيرة نصر بعد انتهاء اللعبة. وهكذا، بات حليف رئيسي للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، يبدو فجأة غير قادر على وقف مد الإسلام العنيف وغير المتسامح في الداخل – ما يثير الشكوك بشأن قدرة باكستان على لعب دور بناء في الحرب على "طالبان" أو مساعدة الولايات المتحدة على انتشالها من أفغانستان، جار باكستان الشمالي.
غير أن احتمال إدانة "قدري"، الذي اعترف بقتل السياسي الذي كان مكلفاً بحمايته، ضئيل. وبدلًا من أن يتعرض للنبذ والذم، لقي ترحيباً حاراً واستُقبل بـ"أكاليل الزهور" وتدافع المحامون ليصافحوه ويعرضوا الدفاع عنه مجاناً. ويستبعد الكثيرون أن يقوم نظام محاكم الأقاليم، الذي اشتهر بالإفراج عن الزعماء الإسلاميين المتشددين، بإدانة بطل ديني قومي. وفي هذا السياق، قال لي صاحب متجر في "روالبندي": "لا توجد عدالة للناس العاديين في بلدنا، ولكن العمل الذي قام به قدري ضد كافر جعل كل المسلمين يشعرون بقوة أكبر"، مضيفاً "قد يعاقبونه، ولكن ماذا عساهم يفعلون مع مليون من أمثال قدري الذين ولدوا اليوم؟".
رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني، الذي كان ائتلافه الحاكم على وشك الانهيار مؤخراً، طمأن الحشود المسلمة بأنه لن يتم تغيير أي كلمة من قانون ازدراء الأديان الباكستاني، الذي يعد واحداً من أشد وأقسى القوانين المماثلة في العالم الإسلامي إذ يجعل من أن أي إساءة مزعومة للرسول – حتى وإن كان الأمر يتعلق بتصريح أسيء تأويله أو مصحف يرمى جانباً - سبباً للإعدام.
وكان تيسير قد اقترح تلييناً وتخفيفاً للقانون، بينما تلقى مشرِّع آخر فعل الشيء نفسَه تهديدات بالقتل. وفي الأثناء، تبدو الشرطة، التي أنتجت صفوفها القاتل، مخدوعة أو متواطئة. أما الجيش، العالق بين محاربة "طالبان" واستمالة الرأي العام، فقد لزم صمتاً حذراً.
المعلقون الباكستانيون عبروا عن صدمتهم بالاحتفاء الجماهيري بـ"قدري" وشيطنة تيسير، الذي لم يقم بأكثر من انتقاد قانون ازدراء الأديان والتعبير عن تعاطفه مع امرأة مسيحية حُكم عليها بالإعدام وفق ذلك القانون. ولكن الجو بات جد مشحوناً اليوم لدرجة أن معظم رجال الدين رفضوا القيام بالشعائر الدينية التقليدية في جنازة تيسير، هذا بينما أعلن مدير السجن حيث توجد المرأة المسيحية أنه قد لا يستطيع حمايتها حتى من الحارسات.
والواقع أن بعض الأصوات ارتفعت خلال السنوات القليلة الماضية محذرةً من تنامي الكراهية الدينية في باكستان؛ حيث تحدثت "كاميلا حياة"، وهي كاتبة عمود عن "طلبنة العقول" التي بدأت تنتشر عبر البلاد، مما شجع المجموعات المتطرفة وقوَّاها، وفرض رقابة على النقاش العام. ومن جانبه، ندد عالم الفيزياء والناشط برويز هودبري بسحق التفكير النقدي في المدارس الباكستانية وبطريقة التعليم القرآني التقليدية التي تؤثر في الكثير من العقول الصغيرة. ولكن المرء يسمع بالمقابل، في خطب الجمعة وفي العديد من مستويات المجتمع الباكستاني، تحذيرات بشأن "الغربنة" الزاحفة، والثقافة العلمانية، والاعتداء الشرس على الإسلام من قبل أميركا وحلفائها.
وثمة بعض المراقبين الذين يرون إنه من غير العدل وصم ملايين المسلمين الباكستانيين بالتطرف فقط، لأنهم يؤمنون بما يكفي بالطابع المقدس للرسول لتبرير قتل شخص يسيء إليه، معتبرين أن المطلوب هو زعماء قوميون أقوياء يؤيدون ويزكون القوانين – ضد التكفير والقتل على حد سواء. وفي هذا السياق، يقول حامد مير، وهو إعلامي تلفزيوني معروف: "هذه جمهورية إسلامية، والناس لديهم شعور قوي ضد موضوع التجديف"، مضيفاً "يجب أن نحترم ذلك، ولكن علينا أيضا أن نحترم القانون والدستور، وإلا فإننا سنتوه".
هذا بينما يجادل آخرون بأن العقلية التي تجد تبريراً روحانياً لإطلاق النار على مسؤول حكومي 26 مرة ستقبل أيضاً بجلد المخمورين، وجز رؤوس رجال الشرطة، ورجم العشاق غير المتزوجين – وكلها من الأعمال التي اشتهرت بها طالبان التي اجتاحت منطقة وادي سوات الباكستانية قبل عامين قبل أن يقوم الجيش الباكستاني، الذي يعد شريكاً مقرباً للجيش الأميركي، بطردها من المنطقة بعد أن قوى الجبهة الداخلية لصالحه. واليوم، تحث واشنطن زعماء الجيش على تمديد حملتهم حتى تشمل مناطق قبلية أخرى ينشط فيها المتمردون.
غير أن الرأي العام في باكستان اليوم مختلف عن الرأي العام الذي كان موجوداً قبل عام إذ لا أحد يريد المجازفة وإشعال غضب شعبي: لا المؤسسة الأمنية الممتلكة للسلاح النووي، والتي مازالت تنظر إلى المقاتلين الإسلاميين باعتبارهم أداة مفيدة للتحرش بغريمتها الهند؛ ولا الحكومة الضعيفة والمفتقدة للتأييد الشعبي، وهي حكومة مثقلة بماض علماني، ومازالت لم تخرج بعد من تداعيات اغتيال زعيمتها الكاريزمية بينظير بوتو قبل ثلاث سنوات.
-------
باميلا كونستابل
كاتبة وصحفية أميركية
-------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"