كنيس يهودي أم غواصة حربية؟
في مقال بعنوان "الاتجاه هو الدياسبورا والمنفى" نُشر في الطبعة الإلكترونية لمجلة "جيروزاليم ربورت.كوم" (25 فبراير 2002)، تشير الكاتبة "دارين جاميك" إلى مقال نشر في "بوسطن جلوب" الأميركية بقلم كاتب يُدعى "تاي Tye" يقول فيه: "ثمة حقيقة يهودية إيجابية جديدة، وهي أن عشرات الجماعات اليهودية في العالم تمارس نهضة دينية وثقافية". ولكن ما هي هذه "النهضة"؟ يخبرنا الكاتب أن دعاء "العام القادم في أورشليم"، قد أصبح صورة مجازية قديمة لا تصلح للعصر الحديث. فإسرائيل -حسبما يقول الكاتب- لم تعد الوطن القومي لليهود، بل هي مجرد وطن لليهود مثل أوطان كثيرة أخرى، يقيم فيها اليهود ولا ينوون مغادرتها. ولم يعد من الممكن تصور أن الدياسبورا محطة مؤقتة (كما يتصور الصهاينة) في الطريق إلى إسرائيل، فالاتجاه هو "الدياسبورا".
ومع هذا لا يزال المتحدثون باسم الوكالة اليهودية يرددون بحكم وظيفتهم (ومرتباتهم العالية) المقولات الصهيونية القديمة، رغم إدراكهم أن هذه المقولات لا علاقة لها بواقع يهود العالم، فهؤلاء المتحدثون أعضاء في بيروقراطية تحاول البقاء بأي ثمن، بغض النظر عن مصلحة الجماعة التي عينتها أو انتخبتها لتمثلها ولتدافع عن مصالحها، وهي في هذا لا تختلف عن أي بيروقراطية أخرى.
ويثير "أنشيل باير" قضية مهمة، تقع خارج نطاق المقولات الصهيونية، فيقول في مقال بعنوان "قدرة الدولة على توفير الحماية ليهود الشتات محدودة" (هآرتس 18 فبراير 2008)، "فلنفترض أن إسرائيل هي بالفعل التي كانت وراء قتل ضابط العمليات في "حزب الله" عماد مغنية (رغم نفيها لذلك). فهل عُقدت جلسة "وربما سلسلة من الجلسات على أعلى المستويات تم خلالها البحث في الأمور المترتبة على هذه العملية، مع طرح الافتراض شبه المؤكد بأن "حزب الله" سينتقم وليس بالضرورة من خلال الهجمات على الأراضي الإسرائيلية"، لا بل من خلال ضرب أهداف يهودية تقع خارج حدود الدولة الصهيونية في العالم". "هل كانت إمكانية شن هجمة دموية على يهود الشتات ضمن الاعتبارات التي وقفت وراء قرار القيادة الإسرائيلية التي قررت تصفية مغنية؟ وهل كان من الواجب أن يكون هذا الاعتبار قائماً؟"
ويبيّن الكاتب أن يهود العالم "سواء رغبوا أم لم يرغبوا محسوبون تلقائياً على دولة اليهود. الهجمة على مبنى الجالية اليهودية في بوينس ايريس عام 1994 والانفجارات في الكنيس باسطنبول خلال السنوات الأخيرة، برهنت على أن الشتات هو النقطة الأضعف لدولة إسرائيل". لقد أصبح الدخول إلى كنيس يهودي في بعض الدول -حسب تصور الكاتب- يشبه الولوج إلى غواصه حربية. مباني الجاليات اليهودية في أنحاء العالم موجودة في أماكن حصينة ومحروسة من قبل كتائب من عناصر الشرطة. وفي دول أخرى مثل الولايات المتحدة تتراوح الحراسة بين البسيطة والغائبة تماماً. على أية حال ليس هناك نقص في الأهداف. من الناحية الأمنية، هناك حدود لقدرة إسرائيل على توفير الحماية ليهود العالم، الذين يقطنون في دول سيادية وتحت مظلة حكومات ملزمة بالدفاع عنهم.
والسؤال الذي يثيره الكاتب هو ما يلي: إسرائيل أقيمت قبل كل شيء حتى تكون مكاناً آمناً وملجأ لكل يهودي كائناً من كان. ضمن هذا المفهوم يُفترض أن العمليات التي ترمي إلى تحسين أمن إسرائيل تخدم في الوقت نفسه أمن اليهود الموجودين خارجها كذلك. إلا أن أولئك اليهود معرضون في الوقت نفسه لخطر محدق جسيم جداً: (بسبب دفاع دولة اليهود عن مصالحها دون أخذ مصلحة يهود العالم في الاعتبار). ثم يضيف الكاتب قائلاً: "أليس واجبنا الأخلاقي تجاه إخواننا في الشتات الذين ساعدونا بأموالهم ومساعيهم في بناء قوتنا العسكرية، أن نأخذ هذه المسألة ضمن اعتباراتنا؟ يهود العالم لسوء حظهم جزء من الحرب الطويلة بين إسرائيل وحزب الله وباقي التنظيمات الأخرى، ولكن من الصعب التيقن من كون مخاوفهم قد أخذت بالحسبان مع تنفيذ كل عملية مهمة".
ويحاول البروفيسور "يحزقيل درور" حل هذه الإشكالية في مقال بعنوان "مسألة للشعب اليهودي" (هآرتس 9 أكتوبر 2007) يقترح فيه اشتراك ممثلي يهود العالم بصورة تدريجية ومدروسة في عملية صنع القرارات السياسية الحاسمة بالنسبة لإسرائيل، خصوصاً ما يتعلق بقضية الحدود وإخلاء تجمعات سكانية ومستقبل القدس.
ويرفض "شلومو أفنيري"، عالم السياسة الإسرائيلي المشهور والمستشار السابق لوزارة الخارجية، هذا الرأي في مقال بعنوان "اقتراحات ضم يهود الشتات لعملية صنع القرارات الحاسمة بالنسبة لدولة إسرائيل مسألة مرفوضة ومستحيلة التطبيق" (هآرتس 11 أكتوبر 2007)، فيقول: إن اقتراح البروفيسور "درور" مختل من أساسه وغير قابل للتنفيذ. ثم يتساءل: "من الذين سيتم إشراكهم بالضبط في العملية؟ ذلك لأنه ليست لدى يهود الشتات مؤسسات تمثيلية معتمدة. لنأخذ مثلاً الجالية الأكبر في أميركا. لا يعرف أحد ما هو عدد يهود الولايات المتحدة الأميركية (التقديرات تتراوح بين 4-6 ملايين)، هناك عشرات إن لم نقل مئات من الهيئات والمنظمات اليهودية، التي تتفاخر كل واحدة منها بعدد أعضائها، والتي هي في بعض الأحيان مريبة وغريبة. من الذي سيكون من حقه أن يُصوّت؟ ماذا عن مئات آلاف أبناء الزيجات المختلطة؟ من الذي سيحدد في الولايات المتحدة أو في أية دولة أخرى، مَنْ مِنْ حقه أن يشارك في هذه الانتخابات، ووفق أي معيار؟ ذلك لأنه من الواضح أن مؤسسات مثل "الكونجرس اليهودي العالمي" وعشرات المنظمات الأخرى لا تمثل إلا نفسها. من الواضح أننا أمام مهمة مستحيلة. من يعرف السياسة اليهودية الدولية يعرف أنها أسيرة في يد نشطاء سياسيين أو أصحاب رؤوس الأموال الذين ينجحون بفضل تبرعاتهم في ترؤس هذه المنظمات أو غيرها. هل سيكون هؤلاء شركاء في العملية الديمقراطية الإسرائيلية؟".
والبروفيسور "شلومو أفنيري"، يشير إلى أمرين دون أن يسميهما، الأول هو عدم التجانس اليهودي، والثاني هو عدم اكتراث يهود العالم بالمنظمة الصهيونية، ومن ثم بالدولة الصهيونية. ثم يشير البروفيسور "أفنيري" إلى مسألة أخرى لا يمكن تجاهلها، وهي حقيقة أن منح مكانة الحسم في شؤون إسرائيل ليهود الشتات، سيشجع الادعاءات بصدد الولاء المزدوج. لهذا السبب سترفض منظمات يهودية كثيرة بما فيها تلك التي تؤيد إسرائيل المساهمة في هذه العملية، لأن أعضاءها يرون أنفسهم، وعن حق، مواطنين أوفياء لبلادهم، بل إنهم من خلال صفتهم هذه يمارسون حقهم في التأثير على حكوماتهم لتبني سياسة مؤيدة لإسرائيل.
وآخر القول: من الصعب التحرر من الانطباع بأن أحد الأسباب وراء هذه الاقتراحات هو محاولة الالتفاف أو تحييد القوة الانتخابية لمواطني إسرائيل العرب. ليس هناك شك أن هؤلاء يشكلون تحدياً غير بسيط لإسرائيل كدولة يهودية خالصة لليهود، ولكن ما يُقترح هنا هو أن يكون ليهود الشتات في المسائل الحاسمة تأثير على سياسة دولة إسرائيل من دون أن يكون لمواطني إسرائيل العرب إسهام في ذلك. وربما هناك أيضاً مكان للتساؤل عما سيحدث إذا اتخذ الكنيست قراراً في قضية مهمة وحيوية للكيان الصهيوني مثل القدس، وقرر مجلس الشعب اليهودي قراراً مختلفاً حول نفس المسألة؟ والله أعلم.