تحديات الثقافة العربية "من داخلها"
درج منتدى "الاتحاد" على عادة أصبحت تقليداً في حياة الإبداع الإعلامي الفكري العربي. فلقد أسّس للقاء فكري سنوي يتم مع نخبة من المفكرين العرب، وهم من كتّاب "وجهات نظر" في جريدة "الاتحاد". وجاء لقاء هذا العام 2007 ليحمل عنواناً كبيراً هو:"تحديات الثقافة العربية في عصر العولمة". والتأم شمل المحاورين، فقدموا وناقشوا ثلاث أوراق عمل. وكانت الثانية منها التي قمت بتقدّيمها قد أطلقت حوارات بين الحضور أخذت طابعاً حاداً وحاسماً. أما فضيلة هذه الحوارات فقد تمثلت فيما أفصحت عنه من مشهد عام احتوى على "وجهات نظر" متعددة من جسم الثقافة العربية الراهنة بعجرها وبجرها، إضافة إلى مجموعة من المسائل المعرفية الدقيقة والمفتوحة.
ورقتي حملت عنوان: "الخصوصية الثقافية وموقعها من العولمة". وقد أشرت في بدايتها إلى أن هناك من المثقفين العرب من رأى -في بواكير نشأة النظام العالمي الجديد من أكثر من عِقد ونصف العقد من الزمن- أنه لا خوف على العرب من الوليد الجديد والعملاق عبْر ثورتيْ المعلومات والاتصالات. فهناك "صمّام الأمان الأخير في معركة الوجود العربية"، متمثلاً بالثقافة العربية والجبهة الثقافية. فاعتقد هؤلاء المثقفون -ضمناً- أن كل شيء يمكن أن يتصدع عربياً، ما عدا الثقافة العربية. وكان ذلك بمثابة إشارة إلى أن هذه الأخيرة تمتلك القدرة الذاتية على مغالبة الأحداث، لأسباب متعددة، منها اللغة العربية "بخصوصيتها الإثنية والدينية المقدسة"، ونود القول إن وجود اللغة المذكورة سبق اقترانها "بالقداسة" التي فهمها بعضهم على أنها ذات مرجعية دينية إسلامية، أي (هنا) ذات مرجعية لا تاريخية باقية فوق التاريخ.
وعلى العكس من ذلك، هناك أكثر من رأي أو رأيين أوردتهما في (ورقتي)، لاعتباري إيّاهما منطلقين لوجهة نظر أخرى تخالف تلك السابقة. أما أولهما فيعود للأستاذ محمد عابد الجابري، في حين يعود ثانيهما إلى الأستاذ برهان غليون. يأتي في الرأي الأول ما يلي: "الهوية الثقافية هي حجر الزاوية في تكوين الأمم لأنها نتيجة تراكم تاريخي طويل". أما "الهوية العربية (فهي) هوية مكتملة وثابتة. ولكن التجارب والتحديات تجعل من الضروري بين حين وآخر إعادة ترتيب عناصر هذه الهوية". ومن طرف آخر متمم فإن "الثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية".
ونلاحظ أن الأستاذ غليون يثني على رأي الأستاذ الجابري حول "العقل" ويتوافق معه بل يزيد عليه، حين يعلن بقطع أن الأستاذ الجابري يقدم "البرهان الساطع والقاطع على استمرار هذه البنية التقليدية التي تكونت منذ القرن الثاني للهجرة. ولعل مفهوم العقل العربي نفسه كماهيّة ثابتة، تتكون وتبقى وتستمر، وتتجاوز الزمان والمكان، يقدّم بذاته التفسير المطلوب". (انظر بحث غليون بعنوان: الاجتماع السياسي للحركة الإسلامية- محاولة للفهم والتفسير. ضمن مجلة (قضايا فكرية- الكتاب الثالث والرابع عشر، القاهرة 1993، ص 369).
كل ذلك يتصل بما اعتبرناه رأياً أول يعبّر عن وجهة النظر الثانية المخالفة للأولى، القائلة إن الثقافة العربية تمتلك قدرة ذاتية بنيوية على تجاوز الأحداث الكبرى المُعيقة، لأنها ذات خصوصية تتجاوز تاريخية ما تواجهه. ومن ثم، فإن كلتي وجهتي النظر لا تخضعان للتاريخ والمشخّص والنسبي. والآن، نواجه الشِّق الثاني من ورقة العمل التي وعدتُ بتقديمها عليكم أيها الزملاء. أما هذا الشق فيتمثل بـ"العولمة". هنا، كذلك، لجأتُ إلى الاستئناس بمواقف فكرية-ثقافية لمن لهم حيّز ملحوظ في خريطة الثقافة العربية، فوجدتُ ذلك فيما كتبه الأستاذ برهان غليون. فعدتُ إليه مجدداً -ولن أطيل هنا أيها الزملاء المحترمون-؛ إذ أني أقرأ عليكم فكرة صاغها الأستاذ المذكور في سياق سجاله مع الأستاذ سمير أمين. يقول ما يلي: "عندما نقول إن العولمة تعني خضوع البشرية لتاريخية واحدة، فهذا يعني أيضاً أنها تجري في مكانية ثقافية واجتماعية وسياسية موحّدة أو في طريقها إلى التوحيد". (ضمن: برهان غليون وسمير أمين- ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفكر، دمشق 1999. ص20).
ففي هذه الفكرة الأخيرة يتم التعبير عن مقولة (مكلوهان) الشهيرة بـ"القرية الكونية الواحدة". وهي (أي الفكرة) تلتقي بالصيغة المطروحة فيها- بفكرة فوكوياما حول "نهاية التاريخ" إلى النظام الرأسمالي العولمي، على الأقل كما طرحها في بحثه الأول حول المسألة المعنية. بعد إيراد هذا الشاهد من غليون، يصح التساؤل: هل هناك ما يدعو حقاً إلا في الوهم إلى "توحيد ثقافي واجتماعي وسياسي للبشرية"، سواء كان ذلك بصيغة النظام الغربي- الرأسمالي الراهن، أم بصيغة أخرى، وبكيفية مشخّصة راهنة: نطرح نحن السؤال التالي: ما الذي يسعى إلى "توحيد العالم" الراهن، وما هي العناصر المطروحة في سبيل ذلك؟ نلاحظ أيها الزملاء أن هناك عنصرين اثنين يتعاظمان في المشهد العولمي القائم، هما التّسليع والتّنميط، فبهذين الأخيرين، يجري السعي لإعادة بنْينة العالم. فعبْر التسليع يُمنح العالم "خصوصيته ونسيجه"، وعبْر التنمط يكسب بُعداً كونياً شاملاً. وهذا بدوره يُفصح عن نفسه بما لا يحصى من التحولات الكبرى والصغرى في إطار ثورتي المعلومات والاتصالات، كما في عمليات اجتياح العالم وتفكيكه عسكرياً وسياسياً وثقافياً. وعلى هذا، وصلتُ إلى تحديدٍ أولي من ضمن عدة تحديدات محتملة في ضوء ما أشير إليه، وهو التالي: العولمة هي نظام أم مشروع نظام اقتصادي واجتماعي وسياثقافي يسعى، عبر وسائل كثيرة إلى ابتلاع الطبيعة والبشر، وإلى هضمهم وتمثُّلهم وإخراجهم سلعاً في "السوق السّلعية الكونية"، بجناحيها المذكورين، التّسليع والتّنميط.
ها هنا نضع ملاحظات سريعة: 1) نميز هنا بين العولمة بمثابتها نظاماً وبين منتجاته الكثيرة المهمة والمفيدة. فمن حيث هو نظام، يتأسس على ذينك الجناحين وفي سياق محاولة الهيمنة على العالم، أي عبْر أحادية القطب العالمي. ومن حيث نتائجه، يضع أمامنا ما لا يُحصى من معطيات التقدم، العلمي خصوصاً. وكما أفاد الناس في إطار النظام الاستعماري الكلاسيكي من منتجاته بدءاً بالسيارة وانتهاء بالتلفاز وأدوات الاستهلاك التي لا تحصى. 2) في العولمة برزت دعوات تفكيك الهُويات الوطنية الثقافية والسياسية، بما في ذلك إنهاءُ السيادات، مقابل الدعوة للعودة إلى "الهويات-الجذور"، كالإثنيات والطوائف وما يدخل فيما قبل الوطنية والتقدم الاجتماعي والمساواة والعدل والتضامن بين البشر، وغيرها. 3) العولمة دعت إلى الديمقراطية، وقدّمت الحروب الاستباقية ضمن ثنائية الديمقراطية والإرهاب.
والآن، أصل، زملائي الأعزاء، إلى محاولة أوّلية لن تكون كافية لتركيب القضايا، التي أتيت عليها تحت عنوان ورقتي الوارد في بدايات هذا الحوار وهو: "الخصوصية الثقافية وموقعها من العولمة". هنا أجد أن العولمة لا تعترف بخصوصيات من ذلك النّمط، إلا لكي تنقضّ عليها، بهدف ما أعْلمنا به الأستاذ غليون، وهو أنها "تعني خضوع البشرية لتاريخية واحدة". لكن على العكس من ذلك، نقول، الخصوصية المذكورة هي هرطقة، إذا لم تكن مفتوحة، كما العمومية ليست شيئاً دون تلك. أين موقع الثقافة، إذاً، من العولمة؟ لندع أحد المفكرين الأوروبيين المعاصرين يجيبنا على هذا السؤال الحاسم، وهو الفرنسي سوريس قال: "إن العولمة لم تغتصب ثقافات الشعوب فحسب، وإنما اغتصبت كذلك التاريخ. وإن تدمير الذاكرة والتاريخ لهو شيء رهيب بالنسبة إلى المجتمع". فإذا كان هذا الكلام يتصل بالثقافة الفرنسية، فما أحرانا نقول عن الثقافة العربية وغيرها؟
ذلك كان ما أردتُ أيها الزملاء المحترمون أن أقدمه، راجياً قبول الاعتذار، إذا ما كنت قد أطلتُ عليكم، ومتمنياً أن تقبلوا كلمتي هذه على أنها مفتوحة وقابلة لحوار عقلاني ديمقراطي من الجميع.
أيها السادة، لكم الآن الكلمة، ودائماً المحاورة، تفضلوا (قاطعني زميلان، إذ قالا: معظم ما قدمته لنا في البداية من شواهد حول الهُوية والثقافة والعولمة من كتب بعض الزملاء، لا مصداقية له).
زميل أول: إن ما قدمته الآن ليس هو أكثر من إيديولوجيا تجييشيّة. فالعولمة هي الخير، وأميركا تضع مهمتها الراهنة في دمقرطة الشعوب كلها، خصوصاً أنه لم يعد يوجد استعمار! زميل ثان: لقد قدمت الثقافة بوصفها كتلة صمّاء، وحديثك عن الخصوصية والعمومية بمثابة "إطلاق رصاص". زميل ثالث: لماذا تعتقد أن تشومسكي، الأميركي المناهض للعولمة، يمتلك المصداقية الضرورية؟
زميل رابع: لماذا ترى أن أميركا ضد البشر والثقافة، ولماذا لا ترى أن العولمة هي مستقبل البشرية؟
زميل خامس: لِم تنظر إلى الغرب على نحو ما قدمته لنا، أي بصفته قائماً على صراعات مفتوحة رغم العولمة؟ زميل سادس: لماذا تدعو للمحافظة على الخصوصية الثقافية؟ ألا تعلم أنها انتهت إلى غير رجعة؟
تلك كانت أسئلة وتساؤلات رحّبنا بالحوار حولها وحول غيرها، ثم قدّمنا بضع كلمات قلنا فيها: اسمحوا لي أيها الزملاء المحترمون أن أضع عنواناً لهذه الحوارات قد يصحّ عليها، هو: تحديات الثقافة العربية "من داخلها" في عصر العولمة. ثم: إني تحدثت عن النظام العولمي في أميركا وليس عن أميركا. "أي عن المشروع" العولمي الهيْمني الشمولي والمتقدّم بجموحٍ يقارب جموح تسونامي. وأكدتُ على أن المشروع العولمي في صيغته الراهنة، على الأقل، لا يخرج من حقل المستحيل التاريخي، لأنه يسعى إلى إعادة بناء العالم بقدم واحدة ورؤية واحدة وقيادة واحدة، كما هو الحال بالنسبة إلى النظم الأمنية العربية الراهنة. إضافة إلى ذلك، لم أتحدث هنا عن "العالمية" وإنما عن "العولمة" بالمعنى الاصلاحي العلمي. ثم، لا يصح التغاضي عما أطلقه كود ليفي-ستروس، حين قال: لا ينبغي أن ننسى أبداً أن أية شريحة من البشر، لا تمتلك صيغاً يمكن تطبيقها على الكل.