هل كان الطفل الصغير، وهو يلهو في مسقط رأسه، بمحافظة «القريات» في منطقة الجوف، شمالي السعودية، يدرك أن الانفتاح الذي تمارسه «القريات»، بوصفها قبلة لسياحة الاستشفاء بعيونها المالحة، أو لكونها بوابة السعودية على الأردن، حيث لا يبعد المركز الحدودي عن القريات أكثر من ثلاثين كم، أو يتوقع، أن موضوع الآخر، سيكون هو لب تخصصه، واهتماماته.
ولد الناقد والمفكر، السعودي، الدكتور سعد بن عبدالرحمن البازعي، في 1953، ويميزه أنه بقي متمسكاً، بمنهجٍ صارم في البحث، بناه خلال، مسيرته العلمية والأكاديمية، الممتدة أربع عقود، حفلت بالمختلِف من القراءات، والحوارات التي طغت على الساحة الأدبية السعودية، فكان بعضها ينتهي كهدوء «القريات»، وكثير منها صاخبٌ كصخب أميركا السبعينات، حيث كان البازعي، يحضر رسالتيه في الدراسات العليا. وكان حصل على بكالوريوس اللغة الانجليزية عام 1974، من جامعة الملك سعود، ونال الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة «بيردو» بإنديانا، والدكتوراه في الأدب الإنجليزي والأميركي، من الجامعة ذاتها، وهو ابن ثلاثين عاماً.
منذ أطروحته الأساسية، حول الاستشراق في الآداب الأوروبية، خصص البازعي عدداً من بحوثه، حول الأدب الإنجليزي والأميركي، والعلاقة مع الآخر، فألف: «دليل الناقد الأدبي... مؤلف يضيء على سبعين تياراً»، بالاشتراك مع «ميجان الرويلي»، وكتاب «استقبال الآخر»، و«مقاربة الآخر»، و«الغرب في النقد العربي الحديث»، و«المكون اليهودي في الحضارة الغربية»... وغيرها من المحاضرات والأبحاث والمقالات عن هابرماس وفوكو وأدرنو. والحق أن البازعي، باحث جاد، انكب طوال حياته، على الاطلاع الأدبي، والموسيقي، والنقد الروائي، والشعر، وتناول في أحد كتبه إشكاليات قلق المعرفة، الفكرية والثقافية، وكأنه يكرر شكوى أبي الطيب:
فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقاماً
وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا
عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي
أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا
لا يُلغي البازعي، الآخر الغربي، وإنما يضع حدوداً للتعامل معه، فهو ضد الاستقبال المطلق لكل منتج الآخر بعجره وبجره، كما في نقده للدكتور حسن حنفي، وهو يناهض الحداثة المطلقة، وهذا سبب سجالٍ، قديم، بين البازعي والدكتور عبدالله الغذامي، قبل أن تشيع الحداثة لمثواها، وكان سجالاً ساخناً عاصفاً، كسجالات الثمانينات، في الساحة الأدبية السعودية، تلك التي كانت قابلة للانفجار، بسبب ومن دونه، فالصراع عنوان تلك المرحلة، بامتياز!
استفاد البازعي، وتشكل ثقافياً، مؤثراً ومتأثراً، ففي أواخر السبعينات ألف إدوار سعيد أطروحته الشهيرة حول «الاستشراق»، وكانت موجة الدراسات الجادة لهذه الظاهرة في أوجها، أطروحته حول الظاهرة تأتي استجابةً لتحدي سؤال الاستشراق وموجته الضاغطة آنذاك، وقراءاته لكتب إدوارد سعيد يبدو بها التأثر بالمنهاج، كما مقالته بجريدة «الرياض» بعنوان: «إدوارد سعيد والأسلوب المتأخر» 11 يوليو 2015.
لم يجد غضاضةً في دراسة أدب الصحراء وثقافتها، وهو المختص بالأدب الإنجليزي والأميركي، فمنذ عام 1991 ألقى محاضراتٍ وكرّس كتاباتٍ مدافعاً عن المضمون الشفاهي لثقافة الصحراء، دارساً القيم التي تحملها القصيدة العامية، مواجهاً مع آخرين موجة صعود تيار ثقافي قامع للثقافة العامية، يقول الدكتور البازعي، عن التجربة: «انتقل الاهتمام بالمورث الشعبي إلى العالم العربي في مرحلة متأخرة نسبياً، فدرس الفلكلور في دول عربية مثل مصر وسوريا وبعض دول المغرب العربي، وظهر علماء متخصصون في هذا المجال، وأسست أقسام ومراكز دراسات ونشرت كتب ومجلات متخصصة له في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى تفاوت بين الدول العربية في مدى ونوع ذلك الاهتمام. وجاء اهتمام دول الخليج متأخراً نسبياً، فتأسست مراكز ومجلات، وظهر مختصون في عدد من تلك الدول مثل قطر وعُمان والكويت والبحرين. في المملكة ظهر الاهتمام أيضاً، لكنه اتسم بالجهود الفردية من حيث العناية بالجمع والتأليف، واقتصر دور المؤسسات على تنشيط المهرجانات مثل الجنادرية والدوخلة وعكاظ وغيرها».
لم تقتصر قراءاته على ثقافة الصحراء بمعناها الشِعري، بل شملت الترحال التجاري، فاعتنى بدراسة العقيلات، يكشف عن سر اهتمامه بها بمقالتيْن ومما قاله: «وجدت أن علاقتي بأحد أفراد العقيلات، وهو والدي رحمة الله عليه، تمثل مادة يمكن التوقف عندها على أمل الخروج ببعض المعلومات والرؤى التي يمكن أن تسهم ولو بشكل متواضع ومحدود في إضاءة بعض العتمة المحيطة بتلك الفئة المهمة في تاريخ المنطقة والمجتمع السعودي بل والعربي بشكل عام. وقد ساعدني في ذلك ما تركه غفر الله له من رسائل يتصل معظمها بعمله التجاري في سكاكا بمنطقة الجوف، حيث عمل سنوات طويلة، وظلت تربطه هناك صلات قوية بمعارفه وأصدقائه من عقيل، لاسيما من أقام منهم في العراق والشام من أمثال محمد الدخيل في بغداد، وإبراهيم العلي المنيف والد الكاتب عبدالرحمن منيف في عمّان، رحمة الله عليهم جميعاً».
من الاستشراق في الأدب، إلى دراسة الآخر، ومنه المكون اليهودي، إلى ثقافة الصحراء، وتجار العقيلات، وعشرات الموضوعات الأدبية والثقافية، تميزت رحلة البازعي المنتجة والمتفاعلة مع مجتمعها، ولا يزال يحاضر ويساجل من أجل قناعاته ورؤاه، وهدفه الأساسي بذرة وعي نقدي جاد يساهم في تطوير مجالات الإبداع والجماليات اللغوية والبصرية.
* سفير المملكة في الإمارات