جرأ شباب غزة أخيراً على المطالبة بالسلم، وله طريقان: إزالة سيطرة حركة «حماس» عن القطاع، ووقف النار وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار. ومع تصاعد الاحتجاجات على السطوة الحمساوية، تصاعدت أيضاً اتهامات الحركة للمتظاهرين بأنهم يشقون الصف، ويخدمون مصالح العدو!
لكن كيف يخدم العدو هؤلاء الذين يعارضون السياسات القتالية لـ«حماس»، والتي تتسبب بحرب الإبادة؟ أهل غزة، ومنذ أحداث عام 2007 الدموية بين «حماس» و«فتح» في القطاع، أُخضعوا لسياسات الهوان والابتزاز بحجة ممانعة العدو وتحديه. ولأن «حماس» والفصائل الأخرى، ومن أجل دعم دعاواها في استمرار السيطرة، كانت تتحرك أحياناً ضد إسرائيل، فترد العسكرية الإسرائيلية بقتل المئات والآلاف، فالواقع أنّ الشعب الفلسطيني بغزة كان يخضع لابتزازاتٍ ثلاثة: ضغوط «حماس» على إرادته ومعيشته وحرياته، وضربات إسرائيل المتوالية تبعاً لتحرشات «حماس»، والاضطرار للصمت والتسليم حتى لا يُتهم المتذمرون بأنهم إنما يخدمون إسرائيل إذا اعترضوا على تصرفات الحركة التي لا يَدَ لهم فيها، ولا يملكون وسيلةً للدفاع في مواجهتها.
يريد المتحمسون للحروب الخاسرة والإبادات أن ينسى الفلسطينيون والعرب كيف بدأت القصة وكيف انتهت خلال الفترة بين 2023 و2025 إلى حروب إبادة. انسحبت إسرائيل من غزة عام 2005. وكان معروفاً أن الإسرائيليين يفضّلون التعامل في القطاع مع «حماس» وليس مع الشرعية الفلسطينية. وبدلاً من الاتفاق على إدارةٍ مشتركةٍ للقطاع بين السلطة و«حماس»، هجمت الفصائل بزعامة «حماس» على قوات الشرطة وحركة «فتح» في جولاتٍ دمويةٍ أدت إلى سيطرة «حماس» والفصائل على القطاع دون أن يزعج ذلك إسرائيل التي كان همُّها تقسيم النضال الوطني الفلسطيني لإحباطه. وهناك حقد من جانب قوى اليمين الإسرائيلي و«حماس» معاً على اتفاقية أوسلو (1993)، والتي جرى استخدام «حماس» في إفشالها عن طريق التمرد عليها باعتبارها صكّ خضوعٍ واستسلام! لقد جرى تصعيد الوهم باتخاذ غزة منصةً لتحرير فلسطين، وما كانت غزة محتلة، بل كان الإسرائيليون قد غادروا القطاع منذ عام 2005!
وهكذا ما كان شأن الاستيلاء على غزة إلاّ إقامة دويلة لـ«حماس» محاصرة من كل الجوانب وتحت قمع «حماس» بدلاً من قوات شارون المنسحبة. وطوال الحقبة ما بين 2007 و2023 أقامت الحركة المسلحة دويلتَها على ظهور الغزيين، مع تحرشات ظاهرة ضد إسرائيل لكي يقال إنّ المقاومة من أجل التحرير مستمرة! يعدّ المراقبون تلك الحروب الصغيرة تثبيتاً للسيطرة، ومفاوضات كل الوقت على الهُدَن المتكاثرة والتي لا تكفي للأم الجراح أو إعطاء فرصة للتفكير المختلف بالمستقبل.
أقبل العرب حرصاً على سلامة غزة وسلامها على محاولات إجراء مصالحة بين الشرعية الفلسطينية و«حماس»، بدءاً بعهد مكة أيام الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2008. ثم كانت مصر دائماً على الخط والاجتماعات عندها بين السلطة وخصومها المتشبثين بغزة لا تتوقف، و«حماس» هي التي تتراجع أو تخرج في اللحظة الأخيرة، لأنها لا تريد ترك التسلط على غزة المقهورة.
لا يعني هذا أنّ السلطة الفلسطينية لم تخطئ. إنما هناك فرق بين أخطاء الحرص على السلطة والمناصب، والخطأ الاستراتيجي الكبير الذي وصل حدّ تلقّي أموال من جهة بواسطة إسرائيل للمهادنة وعدم التحرش، وظلّ الأهمّ السيطرة على غزة بالقوة، ومعاداة السلطة الفلسطينية بالضفة والتحرش بالاحتلال حتى صارت الحرب شاملة بين غزة والضفة كما هو معروف.
إنّ السلم الذي لا محيد عنه هو السلم الذي يُبقي على حيوات الأطفال بغزة وفلسطين، ويعطي الفرصة للتفكير بما يأتي، بدلاً من الوضع الحالي: «حماس» في الأنفاق، والفلسطينيون يقتلون بأشكالٍ مختلفة في سائر الأنحاء!
احتجاجات الفلسطينيين هي صرخاتٌ كانت مكتومة، لكنها خرجت الآن إلى العلن من أجل التحرر من «حماس» وإسرائيل معاً. فلتذهب «حماس» وشقيقاتها وليبق الشعب الفلسطيني الذي كان موجوداً قبل «حماس» وسيبقى بعدها.
* أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية