اللغة ليست مجرد أداة للتواصل بين البشر والتعبير عن الأفكار، بل هي الإطار الذي يؤطر الهوية الثقافية للمجتمعات بكل مكوناتها. لغتنا العربية هي جسرنا نحو التواصل مع تراثنا وماضينا ويمثل الحاضر امتداداً قيمياً وثقافياً له. أتأمل واقع ومستقبل لغتنا العربية وسط هذا الزخم المتسارع لتحولات المجتمعات مع الحضارة الحديثة.
أشعر بقلق تجاه حالة التفكك في ارتباطهم بلغتنا الأم، والتي حتما ستؤدي إلى ضعف الرابط الذي يربطهم بثقافتنا الوطنية وتراثنا الإنساني العميق إلى درجة أن اللغة العربية تكاد تصبح غريبة عليهم.
لا بد أن نعي أن الأجيال غير القادرة على التفكير بلغتها الأم هي أجيال فقدت بوصلتها الثقافية، وأصبحت غير قادرة على التعبير عن أفكارها وأحلامها بلغتها الأم، فندخل في انعطافة حادة من تغير المجتمع وتأثر هويته الوطنية. والسؤال: كيف وصلت الأجيال الجديدة إلى حافة الخطر وتهديد السقوط في هوة الانفصال عن الهوية الوطنية؟
حين ينخرط الطفل الصغير في التعليم داخل المدرسة باللغة الإنجليزية وتصبح مواد اللغة العربية هي مجرد مواد متأخرة في الاهتمام ثم يعود إلى المنزل ليجد آباء تاركين ملف تربية أبنائهم على المربيات، واللاتي عادة يكنّ من مجتمعات وثقافات مغايرة، واللغة المشتركة للحديث هي اللغة الأجنبية، أضف إلى ذلك وصول بعض الآباء إلى تحول حواراتهم ونقاشاتهم فيما بينهم، وبينهم وبين أبنائهم في البيت إلى اللغة الأجنبية، لينشأ الطفل على اللغة الأجنبية وتتشكل أفكاره ومعارفه على ثقافة تلك اللغة، ورويداً ينفصل تماماً عن هويتنا الوطنية ولا يربطه بها إلا بعض العادات السطحية دون عمق ثقافتنا وهويتنا.
يبدأ الطفل ينمو ويكبر وحين يتشكل وعيه يشعر بحالة من الاضطراب الهوياتي بين هوية يعيش على أرضها وهوية تشكلت منها معارفه وأفكاره، وحين يختار بين قراءة نص باللغة العربية ونفس النص باللغة الأجنبية سيختار اللغة الأقرب إلى نمط تفكيره، وفي هذه الحالة سيتجه إلى اللغة الأجنبية، وتتفاقم أزمة الاغتراب داخل المجتمع.
إن بناء أجيال متمسكة بهويتها الوطنية والاجتماعية خطوته الأولى تقف على عتبة اللغة الأم، فكلما ابتعدنا عنها زادت حالة الانفصام الهوياتي وتفاقمت وازدادت مع الأجيال المتعاقبة المسافة بينهم وبين موروثنا وتاريخنا وثقافتنا الوطنية، حتى نصل إلى جيل تنقطع فيه تماماً تلك العلاقة ونتحول إلى مجتمع مغاير ومختلف لا يجد أي علاقة بينه وبين ماضيه وهويته إلا سطوراً كتبت في كتب التاريخ. يجب أن ننتبه لتلك الإشكالية ونعمل على تعزيز العلاقة بين الطفل والشباب وبين اللغة الأم من خلال المدرسة والمنزل والمجتمع.
ويجب أن نعيد صياغة اهتمامنا بلغتنا العربية وتشجيع الشباب على القراءة بها والكتابة والتعبير عن أفكارهم من خلالها والانخراط في الحركة الحضارية للعالم مع الاعتزاز بلغتنا وهويتنا والتفاعل الحضاري مع التكنولوجيا والتقدم العلمي والمعرفي، لتبقى لغة حياتنا اليومية والكتابة والتعبير عن أفكارنا هي لغتنا العربية حاضنة ثقافتنا وهويتنا وإرثنا الإنساني.
د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان*
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.