يبدو أن علماء الأمة عقدوا العزم على وضع حد للخلافات المذهبية التي تسببت في العديد من الأزمات بين أبناء القبلة الواحدة، ليأتي دور مكة- قبلة المسلمين ومهبط الوحي- التي استضافت أعمال المؤتمر الدولي «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» بحضور ممثلين عن أكثر من 90 دولة، من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية، وبمشاركة كبار المفتين والعلماء والمفكرين، ورؤساء المجامع الفقهية.

إن دعم فكرة الحوار بين المذاهب هو نداء للعقل، وقد عززت أجواء المؤتمر هذه المسألة في سبيل تحقيق الأُلفة بين المسلمين، الأمر الذي تحدث عنه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، مفتي عام المملكة، مطالباً علماء الأمة ومفكريها القيام بمسؤوليتهم لإعلاء صوت الحكمة الذي يحفظ للمسلمين وحدتهم، ويعالج قضاياهم، ويضع الأمور في نصابها الصحيح.

إن الاختلاف والتنوع سنة الكون، لكن تغذية الخلافات، وبث الكراهية يتسبب بوقوع آثار سلبية، والشواهد تكشف لنا أن هذه الخلافات لا تقتصر مآسيها على فاعليها، إنما يمتد خطرها للنيل من الإسلام والمسلمين، وهو ما تكشفه الوقائع الدامية التي دوَّنها التاريخ في صفحات سوداء. على المقلب الآخر، فإن التآخي والعيش المشترك والتضامن المطلوب لا يعني بالضرورة القناعة بصحة مناهج الآخر، بل تفهمها واحترام وجودها، كما يعني أن مظلة الإسلام واحدة، والمشترك واسع، وهو ما يمثله قول العلامة محمد رشيد رضا: (لنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).

بعد ما شهدناه من صراعات على هذا الصعيد، فقد حان الوقت لتجاوز المفاهيم الضيقة حيال الخلافات المذهبية، على أن يقود أهل العلم الركب نحو فضاء أرحب بنقاش علمي منهجي يتجاوز التوجس والريبة إلى الأخوة وأدبها الإسلامي الرفيع، وإن ثقتنا كبيرة بقدرة علماء الأمة الموثوق بهم على تحقيق وحدة المسلمين والتصدي بحزم لعوامل التفريق بين شعوبهم، وهذا ما تدعو إليه الإمارات التي مثلها في المؤتمر معالي العلامة عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ورئيس منتدى أبوظبي للسلم، الذي جسّد رؤية الدولة بالدعوة إلى بناء جسور التواصل والتفاهم بين المذاهب الإسلامية، وتعزيز أواصر الوحدة، باعتبار ذلك ضرورة دينية ومصلحة وجودية في ظل التحديات العالمية الراهنة، إلى جانب ضرورة تفعيل الحوار، وتعزيز قيم التسامح، ذلك أن بناء جسور التواصل بين المسلمين تعني فتح الآفاق للتفاعل الإيجابي مع العالم على قاعدة المشتركات الإنسانية، والسعي في الخير والبر. ومن دواعي السرور أن يكون لبلادنا شرف السبق في هذا الفضاء الواسع، وبالطبع تكتمل سعادتنا بدخول دول وأطراف أخرى على خط التعامل مع هذا الملف مثل السعودية البحرين.

وما يبشر بالخير، ويدفعنا للتفاؤل أن البيان الختامي للمؤتمر أبرز بوضوح نجاح العلماء في وضع برامج عملية تعكس توحيد المواقف في مواجهة التحديات والمخاطر المشتركة، وهم الذين تمكنوا من بلورة عملٍ منهجيٍّ يتضمن مبادراتٍ ومشروعاتٍ تعلي منهج الاعتدال، وتدْحضُ خطاب الطائفية.

ومن جهة ثانية، فإن ثمار المؤتمر تكللت بوضع أسس مشتركة لوثيقة «بناء الجسور بين المذاهب» لتحقيق مصالح الأمة في العمل الإغاثي والتعاون العلمي والتعليم، ومجالات التنسيق الإعلامي والاجتماعي لمواجهة التحديات والمخاطر التي تستهدف وحدة الأمة.وإن كانت المملكة العربية السعودية بثقلها قد عقدت العزم على السير في طريق رأب الصدع، وإزالة الألغام من هذه الطريق، فلا ريب أن هذا الأمر سيترك آثاراً إيجابية على ملف التقارب بين المذاهب ومختلف الطوائف، لما للمملكة من مكانة روحية عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو ما ننتظر حدوثه قريباً.