على الصعيد السياسي للمجتمعات، يقوم البشر بتصنيف أنفسهم إلى «محافظين» و«وسطيين» و«تقدميين»، وعادة ما يطرح تساؤل حول لماذا يقع شخص ما ضمن أحد هذه التصنيفات وليس ضمن غيرها؟ وإذا ما كان المرء يؤمن بهذه التصنيفات، فما هو أساسها ومنبعها؟ إن هذه قضية فكرية - فلسفية التساؤل حولها يعود إلى الاعتقاد بوجود الدولة القوية، بما في ذلك كونها دولة رفاه تضمن للمجتمع معيشة هانئة وأمن وسلام.
وبما أن الأمر فلسفي - فكري، فنحن سنقوم بالتعامل معه من هذا المنطلق.
نحن لا نجادل في أن الأذكياء محبون وموالون لأوطانهم، لذلك فهم غالباً ما يصنفون كمحافظين، وفي الحياة اليومية يوجد الكثيرون ضمن هذه الفئة، لكنهم قد يكونون في ممارساتهم الشخصية ليسوا محافظين، فالأمر هنا معيارياً قد يفصح عن مسألة مهمة، هي عدم وجود مقياس دقيق للمواقف ما بين المحافظة والوسطية والتقدمية.
نحن نعتقد أن الوقت دائماً ما يكون مناسباً لطرح فكرة التصنيف هذه، وبأن التصنيفات يمكن القيام بها بحيث تتضمن تسهيل الفهم حولها.
لكن يبقى أن التصنيف بين محافظ ووسطي وتقدمي هو أمر مثير للجدل، ويضع قضايا كثيرة على المحك تتعلق بسلوكيات البشر تجاه أوطانهم.
ويعود السبب في ذلك إلى التصنيفات الحادة قد تصبح عائقاً أمام التفكير البناء والتبصر العقلاني الرشيد تجاه سياسات الوطن وقراراته.
لذلك فنحن نعتقد بأن مهمة الباحث والمفكر هي إعادة صياغة محتوى ومفهوم مصطلحات المحافظة والوسطية والتقدمية ووضعها في أشكال تتماشى مع المعطيات الشعبية.
وهذه المهمة يجب أن تتم وفقاً لأجندة مرسومة وبوسائل رصينة تطال مصطلحات السياسة العامة للدولة الوطنية الحديثة.
وعليه فبالنسبة لمن يصنفون أنفسهم بأنهم محافظون أو وسطيون أو تقدميون، نشير إلى أن عالم السياسة هو أكثر صعوبة وتعقيداً، مما يفكرون فيه أو يعتقدونه.
ورغم من أن المسألة المطروحة هي فكرية - فلسفية، إلا أن محل اهتمامنا الأساسي ليس هو التنظير المجرد ولكنه التفلسف في الأوضاع كما هي قائمة.
وحتماً أن المجتمعات، هي ساحات تتصارع فيها الأطراف ذات العلاقة، حيث تتنافس لتحقيق مصالحها، لكن ليس من المتعذر اجتناب أو احتواء هذا الصراع والتنافس، بل إنه ليس من المقبول أن تصبح المجتمعات ساحات مفتوحة لتصادم البشر بقسوة لتحقيق نتائج صفرية. ومثل هذه الأوضاع لا بد من التحكم فيها وإيقافها.
إن ما يتبع ذلك، هو أن الأمر قد يبدو وكأنه تطلع ومسعى فكري لشخص يقوم بوصفه في سطور قليلة، وكفى الله المؤمنين شر القتال، لكنه في حقيقته هو مسعى صالحاً ومناسباً لجميع البشر الذين يعيشون في وطن ما.
إن خلاصة عقود من الزمن صرفت من قبل دارس لعلم السياسة تتلمذ لدى مدارس فكرية حديثة، ووقف محاضراً في علم السياسة في فروع النظم السياسية والنظرية السياسية والفلسفية السياسية وككاتب سياسي في الشؤون العامة، لا بد وأن تكون النظرة العميقة لديه لتصنيفات البشر لأنفسهم ذات معنى قوامه تحليل أهداف أولئك المصنفين لأنفسهم تجاه الوطن.
لكن المهم هنا هو أن هذه التجارب في الحياة تجعلنا حذرين جداً تجاه تصنيفات البشر لأنفسهم، خاصة عندما يكون الأمر متعلقاً بشؤون الوطن.
إن المسألة لدينا تنبعث من التداعيات السلبية، فنحن أكثر رهبة حيال التداعيات المحتملة بعيدة المدى الناجمة عن الافتراضات الفلسفية الكامنة في الثقافة السياسية التي يعكسها نمط الدولة - الوطنية القائمة، وتصنيف البشر لأنفسهم حيالها، فلدينا الوطن فوق الجميع، وأمنه وسلامته هي مسؤولة الجميع.
*كاتب إماراتي