من الواضح أن الاقتصاد العالمي لم تعد تحكمه القواعد المركزية التقليدية، والنمو التكنولوجي يتسارع إلى ما هو أبعد من الفهم البشري، والابتكار ليس خياراً، بل ضرورة اقتصادية، وماذا لو لم يكن القادة الاقتصاديون في الغد دولاً، بل شبكات لامركزية؟ وماذا لو لم تكن الفرصة التالية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار في التمويل، بل في الوعي والرفاهية؟ وماذا لو لم تحل تقنيات الذكاء الاصطناعي محل البشر، بل تخلق نظاماً اقتصادياً جديداً تماماً قائماً على الإبداع التقني والذكاء العاطفي؟
وماذا عن نهوض قوى عاملة بلا حدود؟ والمهارات وليست الجنسية هي التي ستحدد المشاركة الاقتصادية، وسيتحول جزء من الاقتصاد إلى اقتصاد غير مرئي بعيداً عن الناتج الملموس - المصانع والأسواق المالية والسلع الأساسية - والفترة القادمة قد تحددها الأصول غير الملموسة وغير المرئية، مثل اقتصاد الانتباه في عالم رقمي للغاية، ويعد الانتباه العملة الجديدة، حيث يقضي الإنسان العادي 60% من حياة اليقظة في المساحات الرقمية، وبحلول عام 2030 سيكون للانتباه البشري قيمة نقدية تزيد على 20 تريليون دولار، ناهيك عن الاقتصاد العصبي: وهي منصات مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، وستكون العاطفة خدمة، والشركات ستقدم تجارب عاطفية، وليس فقط المنتجات.
ناهيك عن متاجر افتراضية مصممة لكل شخص بمفرده، وتجارب الحياة الشخصية التي تدار بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب شركات الحوسبة المعرفية التي تطور الذكاء الاصطناعي لتتبع المشاعر البشرية، وتلك الشركات الناشئة في الرأسمالية الواعية ستركز على تحقيق الربح الأخلاقي، وستبرز الدول السحابية ومجتمعات تتشكل بالكامل عبر الإنترنت باقتصاداتها وقواعدها وعملاتها الخاصة، ولك أن تفكر مثلاً في «جمهورية جوجل»، أو المجتمعات التي تقودها المنظمات اللامركزية المستقلة.
وماذا عن طرق التجارة اللامركزية، من خلال أنظمة لوجستية تعمل بالذكاء الاصطناعي لتوجيه البضائع، وتسعيرها بشكل ديناميكي، بناء على حوكمة لامركزية متجاوزة سياسات التجارة التقليدية؟ ويبدو أنه سيكون لأنظمة الهوية الرمزية دور مهم في أن يقلل الأفراد من الاعتماد على الحكومات، والتحول إلى أنظمة الهوية القائمة على تقنية «بلوك تشين» للحصول على الخدمات. وهل البيئة التعليمية والمعرفية اليوم في الخليج العربي معدة لاقتصاد المستقبل القريب، ولن أقول البعيد؟ وهل البنى التحتية مهيأة لذلك؟
يجب ألا تنشغل دول المنطقة في التنافس فيما بينها، وأتحدث هنا كجدوى اقتصادية خالصة، بل ينبغي التكامل الكلي بهدف تحقيق الاستدامة الاقتصادية الخليجية، وإنْ كنت أعتقد أن التكامل الخليجي لوحده غير كاف دون انضمام دول الإقليم في رؤية مشتركة تكاملية. ولا أعتقد أن المنطقة تملك خياراً آخر لها، وإنْ كانت الدول في الوقت الحالي تعمل منفردةً باقتدار وبنمو متسارع للغاية، ولكن إلى متى ستصمد الرؤى المنفردة؟
العالم يتجه نحو نظام الكوته السياسية في منظومة تقاسم الهيمنة العالمية بين القوى الأبرز، وسيادة منطق الواقعية والقوة في العلاقات الدولية في العصر «الترامبي - البوتيني» ، إلى جانب الركيزة الأساسية التي سيبنى عليها اقتصاد العالم المستقبلي، وهي دولة الصين وتقدمها الباهر في شتى المجالات، والتي أصبح إيقافها مستحيلاً، خاصةً وهي تحتكر قرابة نصف الاحتياطي العالمي للمعادن الأرضية النادرة،ولها حضور قوي في نسبة كبيرة من الدول العشر الأهم في العالم المصدّرة للمعادن النادرة التي تدخل في الصناعات الحالية والمستقبلية الاستراتيجية الأهم.
فهل تمتلك دول الخليج العربي المواد الخام والموارد الطبيعية الحيوية لاقتصاد المستقبل؟ الإجابة عن هذا السؤال ستمهد لعملية التحول الاقتصادي الذكي المشترك والعملة الرقمية المشتركة، حيث إن المنافسة عامل عرقلة وليست عامل تقدم، في ظل معطيات تختلف عما تم تدريسه في كليات إدارة الأعمال وكليات الاقتصاد التقليدية.
ولهذا من الضروري تحسين بيئة الأعمال الخليجية ككتلة اقتصادية تكمل بعضها بعضاً، ضمن المعادلة السياسية الجديدة لنظام عالمي له متحورات عديدة، وفق الأشهر وليس السنوات، ما يجبرنا أن نصبّ تفكيرنا في أن تكون المنطقة مصدراً للأدمغة، والهجرة الداخلية في المنطقة وليست الخارجية، والوحدة الحقيقية، وإعادة تنظيم أنماط التجارة الإقليمية سيكون المفتاح الأبرز لتلك النقلة النوعية.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.