في رد غير مسبوق على المواقف الأميركية الأخيرة، هدد وزير الخارجية الصيني وانغ يي بعزم بلاده مواجهة إجراءات الحرب التجارية التي أعلنها ضدها الرئيس ترامب، مع الاستعداد الحازم لكل أشكال المواجهة مستقبلاً مع الولايات المتحدة، معرباً في الوقت نفسه عن ثبات وصلابة الشراكة الروسية الصينية في كل الملفات الدولية العالقة.

ولا يمكن فصل هذه التصريحات عن التقارب الملحوظ والمتزايد بين روسيا والولايات المتحدة، في سياق ما عبّر عنه خلال مؤتمر ميونيخ للأمن نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس حول أولوية الاهتمام بمنطقة آسيا والباسفيك على حساب ما كان يتم الحديث عنه من خطر روسي. فيدور لوكيانوف، رئيس مجلس الشؤون الخارجية والدفاع في روسيا ورئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة» الدولية، كتب مقالة في الآونة الأخيرة نشرتها صحيفة «بروفيل» (24 فبراير 2025) دافع فيها بقوة عن الحلف الروسي الصيني، محذِّراً مِن خطوات التقارب مع الغرب الجماعي الذي اعتبره الرئيس بوتين في خطابات سابقة «العدو الاستراتيجي» لبلاده. وبالنسبة للوكيانوف، فإن ما كشفت عنه الحرب الأوكرانية هو ظاهرة «الأغلبية العالمية» التي رفضت الانحياز للغرب في الصراع المحتدم مع روسيا، في الوقت الذي يشهد الغرب حالياً لحظةَ تفكك وانهيار تضعِف قبضتَه على النظام الدولي. ما ينبغي اعتماده في هذا الوضع، حسب الكاتب، هو الاستفادة القصوى من انهيار الكتلة الغربية، مع الإبقاء على علاقة التحالف الاستراتيجي القوية مع «الجنوب الشامل» والقوى الآسيوية الداعمة التي تتمحور حول الصين. أي بعبارة أخرى، فإن المطلوب هو احتواء سياسة الإدارة الأميركية الجديدة الهادفة إلى عزل الصين عن روسيا من خلال التقارب مع موسكو، بما يسمح لواشنطن بالتركيز على المجال الآسيوي الباسفيكي بصفته بؤرة الصراع الجيوسياسي القادم.

وفي كتاب صادر بالفرنسية قبل وقت وجيز، بعنوان «آسيا- الباسفيك: مركز العالم الجديد.. الغرب في وضع التحدي»، من تأليف الباحثة صوفي بواسو دي روشيه والديبلوماسي كرستيان لشرفي، مؤشرات بارزة على أن هذا الفضاء تحول بالفعل إلى محور الخريطة الاستراتيجية العالمية الراهنة.

ما يتحدث عنه المؤلفان ليس آسيا بمفهومها الجغرافي الواسع (ولذا لا مكان للهند في هذا التحديد)، ولا عالم الباسفيك ذاته الذي هو «بحر أميركي» (ومن ثم لا مكان لأستراليا في الكتاب)، وإنما المقصود هو «آسيا الباسفيكية» التي تشمل 17 دولة من شمال شرق آسيا وجنوب شرقها، تنتمي بصفة عامة إلى الحضارة الصينية، رغم تنوعها الديني والإثني.

وحسب المؤلفَين، فقد أصبحت منطقة آسيا الباسفيكية تشكل 60 بالمائة من إجمالي الدخل العالمي، و66 بالمائة من النمو العالمي، وتتميز بحركية الاندماج الإقليمي الواسع بحيث تتركز الأنشطة التبادلية داخل المجال نفسه ويتقلص اعتمادها على الخارج، مما يجعلها بمنأى عن أي تأثير سلبي للعقوبات التجارية الأميركية. وبطبيعة الأمر، لا يمكن في الوقت الراهن الحديث عن قطب استراتيجي دولي منافس للولايات المتحدة أو الكتلة الغربية إجمالاً، لكن من البديهي أن هذا الفضاء الجيوسياسي الصاعد يشكل تحولاً نوعياً في النظام الدولي.

في السنوات الأخيرة، برزت عدة مبادرات كبرى لبناء محور قوة في المنطقة، بدوافع من الصين التي شكلت عدة مؤسسات إقليمية لهذا الغرض، كما حافظت على تقليد القمم الثلاثية بين الدول الكبرى في الإقليم (الصين واليابان وكوريا)، وسعت لتوطيد الروابط بين الدول المطلة على نهر المكونغ (الصين، برمانيا، تايلاند، لاووس، كامبودج وفيتنام)، وحققت انفتاحاً ملموساً على دول آسيا الوسطى التي كانت تنتمي في السابق للعالم السوفييتي.

هل يمكن أن نستنتج من هذه المعطيات أن المجال الآسيوي الباسفيكي، بمنظوره الجديد ومحورية الدور الصيني فيه، سيشكل في المستقبل قلبَ النظام العالمي، كما يرى المؤلفان اللذان يعتقدان أن أوروبا ليس لها أفق مستقبلي إلا بالتعاون الوثيق مع هذا الفضاء الصاعد، بعد أن برزت بوادر ملموسة على انهيار الشراكة الأطلسية وتفكك مفهوم الغرب الإستراتيجي؟ من السابق لأوانه، الرد على هذا السؤال الجوهري.

فمن الواضح أن العقل الاستراتيجي الأميركي منذ عهد الرئيس الأسبق أوباما قد اعتبر أن العالم الآسيوي الباسفيكي غدا محورَ المنافسة الجيوسياسية القادمة، ولهذا الغرض تعتمد الولايات المتحدة على أطراف حليفة في المنطقة لاحتواء «التهديد الصيني»، مثل الهند وأستراليا، وإلى حد ما اليابان التي لم تحسم بعد موقفَها في هذا الصراع المقبل. في هذا السياق، تندرج المسألة الروسية ضمن المعادلة الجيوسياسية الجديدة، وستكون حاسمة ومؤثرة في طبيعة ومآلات هذه المعادلة.

*أكاديمي موريتاني