تحت قيادة وزارة كفاءة الحكومة التي أسسها إيلون ماسك، تعاني الحكومة الأميركية من نزيف حاد في المواهب التكنولوجية، مما يعرّض البلاد لخطر عدم الاستعداد للأزمات القادمة، خاصة التهديد الذي يمثله الذكاء الاصطناعي.

عندما أنشأ الرئيس باراك أوباما «خدمة الولايات المتحدة الرقمية» (USDS) في عام 2014، كان التحدي يتمثل في كيفية إقناع ألمع العقول بترك أرباح وادي السيليكون والانضمام إلى العمل على مشاريع حكومية صعبة وغير جذابة مقابل أجر زهيد نسبياً. كان الحل هو استغلال رغبة هؤلاء الخبراء في خدمة بلدهم، وإخبارهم بأن المكافآت ستدوم مدى الحياة.

وقد نجحت المبادرة في جذب أفضل المواهب التي كان يمكن أن تعمل لصالح شركات مثل جوجل وأمازون وغيرها. عملت USDS كأنها شركة ناشئة ضمن الحكومة، وطورت تقنيات حسّنت حياة ملايين الأميركيين. لقد أعادت تصميم مواقع إلكترونية حكومية كانت تبدو وكأنها صُممت في التسعينيات - لأنها كانت كذلك بالفعل. كما أنشأت نظاماً مجانياً لتقديم الإقرارات الضريبية عبر الإنترنت، والذي سجل معدل رضا بلغ 90% بين المستخدمين. وحسّنت بشكل جذري موقع VA.gov، الذي يستخدمه أكثر من 1.5 مليون من المحاربين القدامى شهرياً للوصول إلى المزايا المتاحة لهم. عندما ضربت جائحة كوفيد-19، كان فريق USDS هو الذي سارع إلى بناء نظام متكامل سمح للأميركيين بحجز مواعيد التطعيم بسرعة. وقد استفاد منه أكثر من 100 مليون شخص. لكن في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب وماسك، بدأت خدمة USDS في الانهيار. قام ترامب بإعادة تسميتها بـ «خدمة الولايات المتحدة دوج» (United States DOGE Service)، في خطوة سمحت لإدارته بإطلاق حملة خفض التكاليف بقيادة ماسك دون الحاجة إلى موافقة الكونجرس. وقد أعطى ذلك لـ DOGE صلاحيات واسعة لإقالة الموظفين وإثارة الفوضى داخل الوكالات الحكومية. ولكن عند التدقيق، يتضح أن الأدلة التي قدمتها DOGE حول وفوراتها المالية قد تبخرت. في المقابل، كانت التكاليف الناجمة عن هذا النهج واضحة: ففي وقت سابق من هذا الشهر، أفادت وكالة أسوشييتد برس بأنه تم فصل حوالي 40 موظفاً في USDS. وفي يوم الثلاثاء الماضي، استقال 21 موظفاً آخر، موضحين في رسالة جماعية أن عملهم تم تحويله بشكل غير أخلاقي، وأنهم تعرضوا لاستجوابات حول ولائهم السياسي. وجاء في الرسالة: «لن نستخدم مهاراتنا التكنولوجية للمساهمة في تقويض الأنظمة الحكومية الأساسية، أو تعريض بيانات الأميركيين الحساسة للخطر، أو تفكيك الخدمات العامة الحيوية.

لن نقدم خبراتنا لدعم أو إضفاء الشرعية على تصرفات DOGE». إن تفكيك USDS سيؤدي إلى تراجع التقدم المحرز في تحديث الخدمات الحكومية عبر الإنترنت. ولكن الأخطر من ذلك هو التأثير الذي لم يُفهم بالكامل بعد لتخفيضات الميزانية المقترحة في مجال الذكاء الاصطناعي - وهو مجال قد تترك هذه التخفيضات فيه الولايات المتحدة في وضع ضعيف، تماماً مع وصول التكنولوجيا إلى نقطة تحول حرجة.

ووفقا لتقرير صادر عن أكسيوس، فإن «معهد سلامة الذكاء الاصطناعي» (AISI) الذي تم تأسيسه مؤخراً مهدد بالإغلاق، إلى جانب ما يقرب من 500 وظيفة في «المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا» (NIST). وكان AISI قد أنشئ بفضل أمر تنفيذي من الرئيس جو بايدن، للعمل على مراقبة الذكاء الاصطناعي الذي تطوره شركات مثل «أوبن إيه آي» و«أنثروبيك». كما أنشأ فريق عمل حكومياً لتقييم المخاطر، «وإرساء الأساس لسلامة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم».

ونظراً لغياب تشريعات واضحة من الكونجرس بشأن الذكاء الاصطناعي، يمكن اعتبار «معهد سلامة الذكاء الاصطناعي» (AISI) إحدى الخطوات القليلة التي اتخذتها الولايات المتحدة لمراقبة تجاوزات وادي السيليكون - بما في ذلك تجاوزات شركة ماسك نفسها، xAI. ومع ذلك، فإن هذه المؤسسة الرقابية الحكومية تتعرض الآن للتفكيك على يد الملياردير. إذا تم تفكيك AISI، كما تشير التقارير، فقد يؤثر ذلك سلبا أيضا على العلاقات الدولية فيما يتعلق بقضايا السلامة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.

كان المعهد يعمل مع العديد من الدول الأخرى على مشاريع بحثية مشتركة قد يتم الآن تعليقها. ومن المحتمل أن تصبح الشركات الأميركية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي أقل استعدادا للتعاون مع الباحثين الحكوميين الأجانب.

وقال مصدر مطّلع يعمل عن كثب مع الحكومة البريطانية في مجال سلامة الذكاء الاصطناعي إن هذه التخفيضات تعكس التخبط الواضح في سياسات البيت الأبيض المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. وأضاف: «اليمين التكنولوجي ليس موحداً».

إن الأضرار طويلة المدى لهذه السياسات يصعب قياسها، لكنها بلا شك ستكون كبيرة. فتفكيك AISI سيجعل من الصعب مراقبة وإيقاف التصرفات غير المسؤولة في سوق الذكاء الاصطناعي شديد التنافسية. بينما يؤدي ضعف USDS إلى تقليل قدرة الحكومة الأميركية على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها. لمواجهة التحديات المقبلة، تحتاج الولايات المتحدة إلى توظيف ألمع العقول في المجال التكنولوجي. ومن المهم إدراك أن طرد هؤلاء الخبراء من الوكالات الحكومية المهمة، أو دفعهم إلى الاستقالة بسبب الضغوط السياسية، لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية كارثية.

*كاتب متخصص في التكنولوجيا.

«ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»