هناك بعض الأمور التي تسير على نحو صحيح في دولة الدنمارك، فكما يوضح الكاتب الصحفي الأميركي ديفيد ليونهاردت، في مقال نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن رجال السياسة التقدميين في الدنمارك قاوموا المد الشعبوي اليميني الذي ضرب دولاً أخرى، ترد عليه رئيسة الوزراء «مته فريدريكسن» بأن الفضل في ذلك يعود إلى حد كبير إلى الاعتدال في التعامل مع قضية الهجرة. ويمكن للديمقراطيين لدينا أن يتعلموا منه، فقط إذا كان لديهم الاستعداد لذلك، حيث إن الإفراط في الاعتدال في الانتخابات الأخيرة كلفهم الكثير. وكشف تحليل الانتخابات أن الناخبين الذين اعتبروا الهجرة قضيتهم الأهم كانوا أكثر ميلاً قليلاً للتصويت لدونالد ترامب مقارنة بالناخبين الذين اعتبروا الإجهاض قضيتهم الأولى وصوّتوا لكامالا هاريس.

ولسوء حظ «الديمقراطيين»، كان عدد الناخبين الذين أعطوا الأولوية للهجرة يقارب ضعف عدد الذين ركّزوا على الإجهاض. وتجادل فريدريكسن بأن الهجرة واسعة النطاق تُضعف التقدميين بطريقة أخرى أيضاً؛ فقد أدى العمل على زيادة التفاوت الاقتصادي وإضعاف الشعور بالتماسك الثقافي للبلاد إلى تراجع دعم الناخبين لحالة الرفاهية، إذ يخشون بشكل متزايد أن تذهب الفوائد إلى الوافدين الجدد على حسابهم. لهذا السبب خفض «الديمقراطيون الاجتماعيون» الحاكمون في الدنمارك معدلات الهجرة وكثفوا عمليات الترحيل. أما «الديمقراطيون» في الولايات المتحدة، فليسوا على استعداد لاتباع نهج الدنماركيين، ويرجع ترددهم جزئياً إلى ردة فعلهم تجاه ترامب، حيث  ينتقدون سياساته حول الهجرة .

فهم لا يريدون ترحيل المهاجرين غير الشرعيين الذين استقروا منذ فترة طويلة ويعيشون بسلام، أو تفريق عائلاتهم بشكل روتيني، أو الحديث عنهم وكأنهم جميعاً مجرمون أو ما هو أسوأ، فهم يرون أن الاستسلام لأي من هذه السياسات سيكون مناقضاً  لإرثهم.

ولا يزال بعض التقدميين يرون أيضاً أن الهجرة مجرد «إلهاء»، ومجرد مسألة تم طرحها لصرف الانتباه عن قضايا أكثر أهمية، مثل تركز الثروة، والأهم برأيهم، هو معالجة القضايا الاقتصادية مباشرة بدلاً من الوقوع في هذا الفخ. ما تشترك فيه هذه التبريرات هو الإخفاق في أخذ إمكانية الاعتدال في مسألة الهجرة على محمل الجد ويمكن تحقيقها، فهي تفترض أن الناخبين ليس لديهم أسباب للمطالبة بتشديد الرقابة على الحدود سوى العنصرية أو الجهل، وأن الخيارات المتاحة تقتصر على التساهل أو القسوة.

إلا أن الناخبين أنفسهم لا يفكرون جميعاً بهذه الطريقة، فبعض الأميركيين يعتقدون أن الهجرة كانت مفيدة للبلاد في العموم، لكنهم يرون أنه يجب تقليلها في تلك المرحلة بالذات، فهم يريدون فرض قيود على اللجوء لمنع الحدود من الانهيار، غير أنهم في الوقت نفسه يعارضون ترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين. ووفقًا لاستطلاعات مؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي العالمية، فإن هذه المواقف تعكس رأي المواطن الأميركي العادي. كما أن هذه المواقف تتماشى مع مواقف «الديمقراطيين» في السابق وليس في الماضي البعيد، ففي تسعينيات القرن العشرين، عيّن الرئيس بل كلينتون لجنة معنية بالهجرة قدّمت توصيات متوازنة، كانت تتضمن تخفيض الهجرة القانونية، والترحيل السريع للقادمين غير الموثقين، وإتاحة الاستفادة من المزايا الحكومية لمن تم قبولهم قانونياً.

وقد صادق كلينتون على تلك التوصيات. ولن تقلل العودة إلى هذا النهج القديم، أو أي إجراءات مشابهة له، من قدرة «الديمقراطيين» على انتقاد تجاوزات ترامب، بل ستجعلهم أكثر مصداقية. كما ستساعدهم في إثبات أن معارضتهم ليست نابعة على التطرف أو التعصب، وستضعهم في وضع أفضل للدفاع عن جميع مواقفهم الأخرى غير المتعلقة بالهجرة. وبالطبع، سيظل الناخبون المؤيدون لسياسات ترامب المتعلقة بالهجرة بالكامل متمسكين به، إلا أن الناخبين الآخرين قد يجدون نهج «الديمقراطيين» أكثر قبولاً إذا اعترفوا أكثر بوجود مقايضات في سياسة الهجرة؛ على سبيل المثال، يمكن استقبال المزيد من المهاجرين ذوي المهارات العالية إذا تم التأكد من أن البلاد لن تواجه تدفقاً مستمراً لمئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين. ويبدو تقبل حقيقة أن هؤلاء الناخبين لديهم مخاوف عقلانية أكثر جدوى من إخبارهم بأن ترددهم في مسألة الهجرة مجرد خدعة من الأثرياء لإلهائهم. ووفقاً ليونهاردت فإن جزءاً مما جعل رد الفعل العنيف ضد الهجرة قوياً في الدنمارك هو أن «المؤسسة السياسية أمضت عقوداً وهي ترفض الاستماع إلى ناخبيها».

وهي مشكلة تواجهها الولايات المتحدة أيضاً. قد يثير طرح «فريدريكسن» حول حالة الرفاهة سؤالاً مثيراً للجدل بين المحافظين وهو: هل ينبغي علينا إعادة النظر في موقفنا السائد وبدء دعم مستويات مرتفعة من المهاجرين لأن ذلك يجعل الحكومة الكبيرة أقل قابلية للاستمرار؟! لا أعتقد ذلك، فمن ناحية قد يؤدي انخفاض مستوى الثقة في المجتمع إلى تقليل الدعم للمنافع الحكومية، إلا أنه قد يزيد أيضاً من المطالبات بتدخل الحكومة في حل النزاعات بين المجموعات المختلفة.

ومن ناحية أخرى، ينبغي علينا تجنب تفكك البلاد من أجل مصلحتها الخاصة. ويجب أن نطمح إلى حكومة محدودة لضمان ازدهار جمهوريتنا المشتركة، وليس لأننا تخلينا عن فكرة وجودها. في الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك أي مؤشرات على إعادة النظر في مواقف أي من الطرفين في الجدل الدائر حول الهجرة، حيث يعول التقدميون على أن رفض الجمهور لترامب سيعفيهم من الحاجة إلى إجراء تغييرات مؤلمة، كما حدث خلال ولايته الأولى، لكن ينبغي عليهم أن يدركوا أنه لو كانت الولايات المتحدة قد استقبلت عدداً أقل من المهاجرين خلال العقود الماضية، فربما لم يكن ترامب ليحظى بفرصة الترشح في الولاية الأولى من الأساس.

* زميل في معهد «أمريكان إنتربرايز».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»