صبيحة الأول من مارس الجاري، عرفت بوفاة المثقف والسياسي المغربي الكبير محمد بنعيسى عن عمرٍ عالٍ بعد مرض عضال. وفي السنوات الأخيرة كنا نخشى عليه كثيراً ونسأل ماذا سيحدث لمنتدى أصيلة الثقافي إذا توفي؟ فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً كان يجمعنا، كباراً وصغاراً، في البلدة الجميلة (أصيلة) بجانب مدينة طنجة. والاجتماع ليس احتفالياً، بل هو اجتماع للتنمية الثقافية، نستفيد منه نحن المثقفين التعرفَ على الأبعاد السياسية للتنمية ومشكلات القارات، بل ويتعرّف بعضُنا على بعض. بينما يستفيد منه الشبان المقبلون على العمل العام معرفةً بالمثقفين البارزين من العرب والأجانب، إلى جانب الفنانين وصانعي الأفلام، وكل مَن يتطلع إلى الإبداع وخدمة المجتمع.
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي عرفنا محمد بنعيسى وزيراً للثقافة بالمغرب، ثم وزيراً للخارجية. وعندما قابلتُه للمرة الأولى عرفت منه أنه كان سفيراً لبلاده بالولايات المتحدة، لذلك تقابلنا في هارفرد عندما كنتُ أستاذاً زائراً هناك! وهذا هو محمد بنعيسى يتذكر وسط الزحمة ويقدّر ويفكّر كيف يجمع الطاقات، وكيف يصنع من لا شيء شيئاً بنّاءً.
يقسّم بنعيسى موسم المنتدى في شهري سبتمبر وأكتوبر إلى فقرات منتظمة من الثقافة والسياسات التنموية والفنون، والاحتفاء بالأعلام في شتى المجالات، وبخاصةٍ الفنون (الرسم والشعر والنثر)، إلى جانب الفكر والأدب والتاريخ والمشكلات الحاضرة، ومشكلات أفرقيا وقضاياها. ولا يظنّنّ أحدٌ أنَّ دعواته ومؤتمراته مثل دعوات المنظمات العامة أو المتخصصة.. لا، بل كل المدعوين أو معظمهم معارف شخصيون، ويُكلَّفُ كلٌّ منهم بالجديد الذي يستطيع قوله في عشرين دقيقةً لا أكثر! ولكلٍ منا في كل يومٍ نشاط، والذي يريد زيادة معارفه خارج تخصصه سيجد الجديد الكثير في الندوات الأخرى المتنوعة.
في منتدى أصيلة ومواسمه تعرفتُ على عشرات الوزراء السابقين، الأوروبيين والأفارقة والعرب. أما المثقفون، فقد قابلتهم كلهم تقريباً في رحاب بنعيسى، وهذا فضلاً عن الإعلاميين الكبار.
وفي منتدى أصيلة خبرتُ الثقافة باعتبارها متعةً وليس تعلّماً فقط. وعرفتُ أن الدعوة لمنتدى أصيلة، سواء أكان أحدنا متكلماً أم مستمعاً، فهي درجةٌ من درجات الاعتراف، فليس كل أحد يُدعى، ولا كل أحد يستطيع المحاضرة.
تعلمتُ مع أبناء الجيلين الأخيرين كثيراً عن منتدى أصيلة، وعن محمد بنعيسى شخصياً. عرفنا كيف تكون الثقافة وعياً وتنميةً وصناعةً للجديد والمتقدم. كما عرفنا كيف يكون العمل السياسي وعياً ورقياً ومروءةً ونزاهةً وكفاءة. فالرجل نموذج مِن الجيل الماضي للدولة المغربية العريقة التي طوّرها الحسن الثاني. والثقافة المغربية في أبعادها الإنسانية والإبداعية بارزة وتتجلى عنده في أبعادها العميقة والشاسعة. قلت له ذات مرة ممازحاً، وقد ذكر أنه يفتقر في ثقافته إلى البعد اللبناني: دعك من البعد اللبناني، أين التجربة المصرية؟ فهبَّ ضاحكاً: أتظن أنك ستغلبني؟ ذهبتُ إلى مصر لأدرس الإعلام وأعمل في الصحافة المصرية، ومن هناك ذهبت إلى أميركا.
لا أعرف تجارب الآخرين من أبناء جيلي والجيل اللاحق، أما أنا فعرفت تجربتين مع مصر والمغرب. فالراحل الدكتور جابر عصفور عندما كان أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة هو الذي أعادنا نحن المثقفين العرب إلى مصر. أما التجربة الثقافية المغربية فإن منتدى أصيلة هو الذي فتح لنا الباب عليها وإليها.
رحمك الله يا بنعيسى، يا صاحب الشخصية النادرة، وهل سنعود إلى أصيلة، نلتقي فيها بغيابك؟
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية