التعليم هو العمود الفقري لأي مجتمع يسعى نحو التقدم والازدهار، ولكن حين يصبح النظام التعليمي مرهقاً للطلاب وأسرهم، فإنه يفقد أحد أهم أهدافه وهو تنمية الطالب في بيئة متوازنة تجمع بين التحصيل الأكاديمي، التربية السليمة، والتطور الشخصي. في الإمارات، يواجه العديد من الطلاب وأولياء الأمور تحديات متعلقة بساعات الدراسة الطويلة، كثافة المناهج، وكثرة الواجبات المدرسية، مما يؤثر على الترابط الأسري ويحدّ من قدرة الطلاب على ممارسة الأنشطة الرياضية أو الإبداعية التي تعدّ عنصراً أساسياً في بناء الشخصية المتكاملة.
الدوام المدرسي يمتد في بعض المدارس إلى أكثر من سبع ساعات يومياً، يتبعها كميات كبيرة من الواجبات المنزلية التي تستنزف وقت الطالب وتضعه تحت ضغط مستمر، مما يؤثر على استيعابه ويقلل من شغفه بالتعلم. في الماضي، كانت الرياضة المدرسية جزءاً أساسياً من النظام التعليمي في الدولة، كما كانت الأحياء مليئة بالملاعب والمساحات التي تتيح للأطفال ممارسة الرياضة في بيئة طبيعية تحفّزهم على النشاط البدني. أما اليوم، فقد تقلصت هذه المساحات، وأصبحت الرياضة تمارس على نطاق محدود، في وقت تؤكد فيه تعاليم ديننا الإسلامي على أهمية التربية البدنية، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «علموا أولادكم السباحة، والرماية، وركوب الخيل». ومع ذلك، فإن الطالب الإماراتي يجد نفسه اليوم أمام منظومة تعليمية لا تمنحه الوقت الكافي لممارسة هذه الأنشطة أو استكشاف مواهبه.
في المقابل، يُمنح بعض الطلاب الأجانب المقيمين في الدولة فرصة الدراسة عن بعد إذا كانوا يمارسون رياضات قد تؤهلهم للاحتراف، وذلك وفقاً للأنظمة المعتمدة من وزارات التعليم في دولهم الأصلية. هذا لا يعدّ تمييزاً، ولكنه يعكس اختلاف التشريعات والأنظمة المتبعة في بلدانهم، إلا أن السؤال الأهم هنا: لماذا لا يتم تطبيق نموذج مشابه لدعم الطلاب الإماراتيين الذين لديهم مواهب رياضية أو إبداعية؟ ولماذا لا يتم منحهم نظاماً تعليمياً مرناً يتيح لهم تحقيق التوازن بين التعليم وتنمية قدراتهم الأخرى؟ إذا نظرنا إلى التجارب العالمية، نجد أن دولاً مثل فنلندا، السويد، وكندا قد تبنّت أنظمة تعليمية توازن بين التعليم الأكاديمي والتنمية الشخصية للطلاب.
في فنلندا، لا تتجاوز ساعات الدراسة اليومية خمس ساعات، ولا يتم إرهاق الطلاب بالواجبات المنزلية المكثفة، بل يتم التركيز على التعلم النشط والتطبيق العملي، مما أدى إلى تحقيق نتائج متميزة عالمياً في التفكير النقدي والإبداع، مع معدلات إجهاد أقل بكثير من الدول الأخرى. أما في السويد، فيتم دمج الأنشطة الرياضية والفنية ضمن المنهج الدراسي، بحيث لا تصبح مجرد نشاط جانبي، بل جزءاً من عملية التعليم نفسها، مما يساعد في تحسين الصحة النفسية والعقلية للطلاب.
وفي كندا، يتاح للطلاب الذين لديهم مهارات رياضية أو فنية خيار التعليم عن بعد أو التعليم المرن، مما يمكنهم من تطوير مهاراتهم دون التأثير على مسيرتهم الأكاديمية، وقد أدى هذا النظام إلى تخريج أعداد كبيرة من الرياضيين والفنانين المحترفين الذين استمروا في دراستهم دون عوائق. إذا كانت هذه النماذج قد أثبتت نجاحها عالمياً، فلماذا لا تتم الاستفادة منها في تطوير نظام التعليم في الإمارات؟
يمكن تحقيق ذلك من خلال تقليل ساعات الدراسة اليومية إلى خمس أو ست ساعات، بحيث يتمكن الطلاب من تحقيق توازن صحي بين التعليم والنشاطات الأخرى، وإعادة إدراج الرياضة المدرسية كجزء أساسي من المناهج، بحيث لا تكون اختيارية، بل إلزامية كما كانت في السابق. كما تجب إعادة تأهيل المرافق الرياضية في المدارس والأحياء، بحيث تتاح للطلاب فرصة ممارسة الرياضة، كما كان الحال في الماضي.
إضافةً إلى ذلك، يجب إدراج برامج دعم للطلاب الإماراتيين الموهوبين في الرياضة والفنون، بحيث يتم منحهم خيار التعليم المرن أو التعليم عن بعد، تماماً كما هو متاح لبعض الطلاب الأجانب وفق أنظمة دولهم الأصلية. من الضروري أيضاً تقليل كمية الواجبات المنزلية، بحيث يكون لدى الطلاب ساعات كافية يقضونها مع أسرهم، مما يعزز الترابط العائلي الذي بدأ يتآكل نتيجة لضغط الدراسة المستمر.
وأخيراً، يجب أن يصبح دمج الأنشطة الرياضية والفنية داخل المناهج جزءاً أساسياً من التطوير الشخصي للطلاب، مما يساعدهم على بناء شخصيات متوازنة تجمع بين التفوق الأكاديمي والقدرة على الإبداع والابتكار. الإمارات تمتلك كل المقومات لتكون رائدة عالمياً في مجال التعليم، لكنها تحتاج إلى إعادة صياغة منظومتها التعليمية بما يحقق التوازن بين الدراسة، الحياة الأسرية، والتنمية الشخصية للطلاب.
إذا أردنا إعداد جيل قوي قادر على المنافسة عالمياً، فيجب أن نمنحه بيئةً تعليميةً تدعم العقل السليم في الجسم السليم، وتحقق التكامل بين التعليم الأكاديمي والأنشطة البدنية، وتوفر فرصاً عادلة لجميع الطلاب الإماراتيين لتنمية مهاراتهم ومواهبهم. التعليم ليس مجرد تحصيل دراسي، بل هو وسيلة لبناء مجتمع صحي، متوازن، ومستدام.
*لواء ركن طيار متقاعد.