في القرن العشرين، بدأت محاولات تنظيم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1920، حيث تشكلت «عصبة الأُمم»، وقد شكلتها الدول المنتصرة في الحرب، لكنّ الولايات المتحدة ترددت ولم تدخلْها. وقد نصّت على ضمانات للسلام وللوساطة في النزاعات، وعلى حق تقرير المصير للأقليات.
وجاء في النص أن الحرية هي حق الأمم والدول، لكن هناك شعوب عديدة في آسيا وأفريقيا تحتاج إلى «تدريب» لكي تستطيع إقامة دولٍ مستقلة، ومن هنا أتت فكرة «الانتداب» التي أفادت منها بريطانيا وفرنسا لتطويل حقبة استعمارهما. وبعد الحرب العالمية الثانية، عمد المنتصرون إلى اشتراع نظامٍ أممي هو نظام الأُمم المتحدة، وأرادوا منه تجاوزَ قصور وأخطاء عُصْبة الأُمم، والتأكيد أكثر على حريات الشعوب وعلى حقوق الإنسان أفراداً وجماعات. وظلت هناك أقطاب عظمى هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ثم انضمت إليها الصين.
لقد أمكن، وخلال ما يزيد على السبعين عاماً، تجنب الحروب الشاملة، رغم حصول أزمات خطيرة مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والتمردات على السوفييت في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وأخيراً حرب أفغانستان (1979). وحدثت اختلالاتٌ أُخرى هددت النظام العالمي مثل الغزو الأميركي لأفغانستان (2002) وللعراق (2003). والذي يحدث الآن في العهد الجديد للرئيس ترامب، يشكل تهديداً للنظام العالمي كما عهدناه. فهو يثور على الالتزامات المتبادلة، مع الحلفاء قبل الخصوم، خاصة الأوروبيين الداخلين في «الناتو»، والكنديين والأوستراليين والنيوزيلانديين.
الرئيس ترامب يتخلى عن الالتزامات بحجة تكلفتها الباهظة على أميركا، ويريد تحويل العلاقات مع الدول الأخرى إلى «صفقات» تكون الولايات المتحدة هي المستفيد الأول منها. وسلاحه: الشركات العملاقة والجيش العظيم. إنّ أساس هذه الفلسفة أنّ الحروب إنما تصنعها الانحيازات الاستراتيجية وليس العسكرية، وعن العداوات التي لا داعي لها، والانصراف إلى بناء علاقات للولايات المتحدة مع العالم قائمة على مقولة «أميركا أولاً»!
العالم كله اليوم مأزومٌ وحائر. وأوروبا تمر بظروفٍ صعبة منذ ثلاث سنواتٍ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وقد تحزب الغرب كله لأوكرانيا، وتزعّمته في ذلك الولاياتُ المتحدة، وعزل روسيا وفرض عليها عقوبات، وقدّم مساعدات هائلةً لأوكرانيا.
ترامب يريد الآن وقف الحرب عن طريق محادثات مع روسيا يخشى الأوروبيون والأوكرانيون أن تكونَ على حسابهم في الأمن والأراضي والسيادة. الأزمة الأخرى البارزة تحدثُ في قطاع غزة وعموم فلسطين. يتحدث الرئيس ترامب عن تهجير سكان القطاع، بينما يريد الفلسطينيون والعرب وقف الحرب وإعادة الإعمار والدخول في مشروع الدولة الوطنية الفلسطينية. وكما لم تستطع الأمم المتحدة فعل شيء في حرب أوكرانيا، كذلك لم تستطع فعل شيء في حرب غزة.. فهل يبقى النظام الدولي إذا خرجت أميركا منه أو عليه؟!
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.