ما صدّق أحدٌ من اللبنانيين أن انتخاب الرئيس سيحصل أخيراً، لكثرة ما أبدع البعض في مجلس النواب من أرانب وثعالب وأفاعٍ، والتي اختفت فجأةً بعد سنتين وشهرين من التعطيل، بسبب شدة حرص الثنائي الشيعي على «التوافق الوطني»، كما قال أحد نوابه! أين كان هذا الاعتبار طوال هذه المدة الطويلة، ولماذا هذا الحرص المفاجئ على الوفاق بعد طول أدلجةٍ للخصام؟  

  لقد صار انتخاب رئيسٍ للجمهورية بلبنان ممكناً لحصول أمرين: هزيمة «حزب الله» أمام إسرائيل، وبالتالي ما عاد يستطيع أن يفرض رأيه في الداخل. والأمر الآخر سقوط نظام الأسد في سوريا في ضربةٍ صاعقة. أما هزيمة الحزب فكانت أمراً متوقعاً مثلما كان متوقعاً انهزام «حماس». والذي لم يكن متوقعاً هو سقوط نظام الأسد المفاجئ وهروب رئيسه.

وطوال سنتين كان مرشح الحزبيين والمسلحين لرئاسة الجمهورية هو النائب والوزير السابق سليمان فرنجية. وميزته الرئيسية أنه هو وأبوه وجدّه أصدقاء لآل الأسد أباً عن جد، كما يقال. وميزته الثانية أنه كان شريكاً للأسديين وللحزب في العمليات الأخرى فيما وراء العسكر والقتال!    

وفي دورات انعقاد المجلس لانتخاب الرئيس، والتي كان بري سرعان ما يرفعها خشية «تهريب» رئيس ليس على مزاجه، كانت هناك من الدورات الاثنتي عشر دورة واحدة جدية استطاعت المعارضة أن تجمع فيها تسعةً وخمسين صوتاً لجهاد أزعور، وتخلف فرنجية عن الـ51. وهذه الدورة أيضاً ما جرت متابعتها حسب الدستور، وكان متوقعاً أن يفوز أزعور بخمسةٍ وستين صوتاً، أي النصف +1، لو جرت متابعتها! العاصفتان اللتان حدثتا في لبنان وسوريا جعلتا انتخاب الرئيس ممكناً، بل حتمياً، لأن البلاد كادت تتفكك تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، وتحت وطأة التناحر على المنصب، وصار المرشحون له خمسة عشر وأكثر. جبران باسيل، صهر الرئيس السابق، والعدو الشخصي لقائد الجيش، لاختلاف الشخصية والنهج، كان مستعداً للتحالف مع أي أحد لتجنب القائد. وهو الأمر الذي كان يرغبه الحزب المسلَّح قبل أن يتلعثم لسانه بعد تمزق عضلاته!

وقد صار نبيه بري من أنصار قائد الجيش لاضطراره للالتزام الدقيق بإنفاذ القرار 1701 في جنوب الليطاني على الأقل. وهو الأمر الذي أصر عليه الدوليون وبلورته الخماسية: يأتي جوزف عون فيُعان الجيش، ويُساعَد على إخلاء الجنوب من السلاح، ويدخل في الخطة الإصلاحية الكبرى، ويكون معه العرب والدوليون!  

  ما فوجئنا بتأجيل فوز القائد للدورة الثانية، إذ أُريد إظهار أن الشيعة لم ينكسروا وما صاروا مهيضي الجناح. أما الواقع فإنّ الضربة التي نزلت بالحزب ومحيطه ليس لها مثيل في قسوتها على الحزب ولبنان!     إنّ المفاجآت والعجائبيات التي أحاطت بانتخاب الرئيس، كان آخرها وأهمها خطاب الرئيس بعد الفوز (بـ 99 صوتاً من 128)، والمسمَّى خطاب القسم. وبالفعل لشدة الجدية لا ندري من أين نبدأ.  

  هناك الشعارات التي تتكرر في خطابات المسؤولين الكبار: الحفاظ على سيادة لبنان واستقلاله، والحفاظ على الميثاق الوطني والدستور، والنظر إلى اللبنانيين جميعاً باعتبارهم مواطنين متساوين، والتأكيد على استقلالية القضاء وإصدار قانون خاص بذلك. صفق النواب الحاضرون لهذه التأكيدات على المبادئ.

لكن التصفيق صار عاصفاً عندما تحدث الرئيس عن الإسراع في الاستشارات لتشكيل الحكومة، وستقوم بينهما شراكة وليس تجاذبات وخلافات على الصلاحيات. وسيكون حكَماً وليس حاكماً، وسيعمل على الاستراتيجية الدفاعية، وسيحرص على أموال المودعين، وسيكافح الفساد بكل حزم، وستنتظم العلاقات اللبنانية السورية وسط المساعي لحل مشكلة المهجرين وكشف مصير المفقودين، وستكون الأولوية للعلاقات الودودة مع العرب والدوليين.     كلها مشكلات حساسة تفاقمت وتراكمت أيام الرئيس السابق. ولا شك في أن عون الثاني سيكون مختلفاً عن عون الأول بما لا يقاس. وهكذا فالإيجابيات كثيرة والبرنامج ضخم، ولعلّ الإيجابية الأكبر زوال جبران باسيل ونهجه!

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية