عندما سمعنا وتابعنا أحداث الثوران وما يتبعها من انسداداتٍ في غزة ولبنان وسوريا، أدركْنا أنّ الذي يجرِّب المجرَّب يكون عقله مخرَّباً، كما يقول المثل الشامي. ففي غزة ولبنان هناك استعادةٌ لمغامرات وأوهام التحرير، وفي وسوريا هناك استعادةٌ لأَوهام الإصلاح باستبدال النظام! وفي الحالات المذكورة كلّها حدث قتلٌ ذريعٌ وتخريبٌ وتهجير. وما كان هناك تحريرٌ ولا إصلاح، فضلاً عن التغيير الذي يبعث على الأمل.
فعلى مدى عقدين ونصف العقد جرت عشرات المحاولات القاتلة من النوعين، التحرير أو الإصلاح بالاستبدال، وكانت لهذا وذاك نتائج كارثية. وأول الدروس عدم الاستفادة من عِبَر الفشل والانسداد. منذ زمنٍ يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، هبَّ الأصوليون الفلسطينيون بتحريضٍ من الخارج، لإفشال اتفاقيات أوسلو الموقعة عام 1993 مع إسرائيل، بزعم أنه باستمرار القتال ستكون آمال التحرير أكبر! وفي عام 2007 انفصل الأصوليون بغزة وتابعوا حروبهم، وكانت كل حرب تؤدي إلى مصائب أكبر. وهكذا فعل الحزب المسلَّح بلبنان منذ انسحاب إسرائيل من جنوبه عام 2000.
تتابعت الحروب ودائماً مدفوعة من خارج فلسطين ولبنان، وظلَّ الفشل يتفاقم إلى أن كانت الحرب الهائلة 2023-2024 على الجبهتين، فخرَّبت إسرائيل غزة، كما خرَّبت نصف لبنان. وما كادت تتوقف على جبهة لبنان حتى تصاعدت أوهام الانتصار، شأن كل السوابق. أما في غزة، وعندما تتوقف الحرب، فلا ندري إن كان هناك صوت للانتصار هذه المرة! وإذا التفتنا إلى سوريا، فإنّ المشهد يكاد يكون مماثلاً.
أما في سوريا فهنا حربٌ منذ عام 2011 لا تكاد تخمد إلاّ وتعود للثوران، وهذه المرة بدأها المسلحون من شمال البلاد. وكل من الطرفين يستعين على خصمه بأطرافٍ خارجية. وهناك أربع أو خمس جهات متدخلة في سوريا. وبالطبع لكل متدخل خارجي مصالحه واهتماماته التي لا علاقة لها بمصالح الأوطان وأطرافها المتصدعة. من المراقبين مَن يبرر الثوران هنا وهناك بحالة اليأس التي تسيطر على أحد الطرفين المتنازعين أو على كليهما. والواقع أنّ كلاً من المتنازعين يسعى للانتصار الحاسم الذي لا يمكن الوصول إليه في الواقع.
وفي حالتي غزة ولبنان هناك تفوقٌ حاسم للجانب الإسرائيلي. وبسبب هذا التفوق ما عاد الجانب الإسرائيلي يميل للحلول الوسط، وهو يشير إلى الحالات السابقة، وبخاصةٍ لجهة لبنان، حيث يكون الحزب المسلَّح هو البادئ بالتحرش، وهو الأمر الذي ينطبق على «حماس» والحزب هذه المرة بالذات، فقد تحرشا بالعدوّ المتفوق، وتركا الناس يعانون تحت وطأة القصف لأكثر من عام.
إنّ الدرس الذي كان ينبغي أن نتعلمه جميعاً أنّ السلام والدولة الوطنية والمدنية لا يمكن بلوغهما إلاّ بالنضال السلمي، وبخاصةٍ إذا كان التفوق العسكري ظاهراً لدى الخصم، وأنه لذلك أقلّ احتياجاً أو اضطراراً للمسالمة، التي تقتضي تنازلات لن يسلِّم بها ما دام يستطيع الإخماد بالقوة.
لا بديل في العالم المعاصر ولدى شعوبنا بالذات إلاّ بالدولة الوطنية التي يعيش فيها الناس معاً بواجبات المواطن وحقوقه وبدون عنف أو إرغام. بيد أنّ هذه الإمكانيات الآملة تزداد تضاؤلاً كلما لجأت الأطراف الثائرة لهذا العنف الساطع الذي لا يأبه لحياة الناس وحرياتهم.. فالثوران انسداد وليس أملاً!
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية