يبلغ طول أمين عام حلف «الناتو» الجديد مارك روته 1.95 متر، وبالتالي فإنه يستطيع النظر في عيني دونالد ترامب مباشرة ومخاطبته بثقة وصراحة. إنه سياسي بارع في عقد الصفقات، أدار 4 حكومات ائتلافية مختلفة على مدى 14 عاماً كرئيس لوزراء هولندا، كان خلالها على وفاق مع ترامب الذي قلل من شأن الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة نفسها، ما حوّل «الناتو» إلى محفل يعاني من الفوضى في فترة ولايته الأولى. علاقة روته الودية مع الرئيس الأميركي المنتخَب قد تكون أحد مؤهلاته الوظيفية المهمة، بالنظر إلى تهديدات ترامب الصريحة بسحب ضمانة الدفاع الجماعي لحلف الناتو التي تضمن أمن أوروبا أو بالتخلي عن الحلف تماماً.
ما يحتاجه روته الآن، بالإضافة إلى مرونته السياسية المثبتة، هو دليل نجاةٍ لحلف الناتو، حيث كان المسؤولون الذين قابلتُهم الأسبوع الماضي مستسلمين وقلقين في آن واحد. «إنهم مصدومون عن حق، لكنهم لن يعترفوا بذلك» علناً، هذا ما أخبرتني به مورييل دوميناك، التي كانت سفيرة لفرنسا لدى الحلف لمدة 5 سنوات قبل أن تغادر في يوليو الماضي، مضيفةً: إنهم يتحدثون عن «التصدّي لترامب»، لكن الواقع هو شعور بالذعر. روته، البالغ من العمر 57 عاماً، والذي التقى بترامب في محل إقامته في «مار-أ-لاغو» (فلوريدا)، الجمعة الماضي، تنتظره مهمة صعبة. غير أن مكونات بقاء الناتو في سنوات ترامب واضحة بما فيه الكفاية، وإن كان بعضها مؤلماً من الناحية السياسية. وتتمثل الأجزاء الأساسية في إثبات أن أوروبا ستتحمل مزيداً من العبء وتبليغ هذا الالتزام لترامب بلغته.
وهذا يبدأ بالأمور التالية: -المال: لقد قلّصت معظم بلدان حلف الناتو الأوروبية الثلاثين قواتها المسلحة وقدراتها الصناعية العسكرية لسنوات. ثم ارتفع الإنفاق بشكل حاد عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، وفي نهاية هذا العقد من المتوقع أن تكون في ترسانة حلفاء واشنطن الأوروبيين 600 طائرة مقاتلة متطورة من طراز «إف 35» أميركية الصنع. غير أن المبدأ التوجيهي للحلف لعام 2014، والقاضي بأن تنفق الدول الأعضاء 2٪على الأقل من إجمالي ناتجها الاقتصادي على الدفاع، بات قديماً للغاية وغير كافٍ لتنفيذ خططه العسكرية الحالية.
ولهذا، ينبغي لروته أن يغتنم قمة الناتو المقررة الصيف المقبل في لاهاي من أجل تحديد حد أدنى للإنفاق الدفاعي للحلف، وليكن 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي بشكل فوري، قد ترتفع إلى 3٪ بحلول عام 2030، مع العلم بأن النفقات العسكرية للولايات المتحدة حوالي 3.4٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.. وهو ما يعني عشرات المليارات من الدولارات من النفقات السنوية الإضافية من قبل أعضاء الناتو الأوروبيين وكندا. وسيعني ذلك تحويلاً ضخماً للأموال من البرامج الاجتماعية ومشاريع البنية التحتية والمدارس، وهو خيار غير شعبي إلى حد كبير، ويعني تحولاً قد يعتبره بعض القادة انتحاراً سياسياً. وسيتطلب ذلك شجاعة سياسية قلما نشهدها خارج الدول المعرَّضة للخطر في الجناح الشرقي لحلف الناتو، مثل بولندا وجمهوريات البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا).
وينبغي أن ينصب تركيز روته على الأربعة الكبار الأوروبيين في الحلف: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والتي كانت تشكل معاً قرابة ثلثي حجم الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو باستثناء الولايات المتحدة العام الماضي. والحال أن كل واحدة منها تواجه قيوداً مالية شديدة وستجد صعوبة في تحقيق الهدف، لا سيما إيطاليا التي غالباً ما يكون إنفاقها الدفاعي المحدود مبعث إحراج وطني.
غير أنه حتى نسبة 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي تُعتبر أقل مما كانت تنفقه بعض الدول الأوروبية الكبرى على الدفاع إبان الحرب الباردة. كما أنها لا تمثّل سوى نصف نسبة 6٪ من الدخل القومي التي ستنفقها روسيا العام المقبل. -الديون: سيتعين على روته أيضاً الضغط من أجل إصدار سندات دفاعية باليورو، وهو شكل من أشكال الاقتراض المشترك الذي يمكن أن يتيح جمع مئات المليارات من الدولارات من أجل توسيع الصناعات الدفاعية وتحديث الجيوش. والمفتاح هو إقناع ألمانيا التي تعرقل الفكرة حتى الآن.
غير أن روته قد تكون لديه فرصة في وقت يستعد فيه الألمان للانتخابات الفيدرالية في فبراير المقبل، بالإضافة إلى حجة مقنعة هي أن الاتحاد الأوروبي اقترض حوالي 850 مليار دولار بشكل مشترك من أجل تحفيز الاقتصادات التي دمرتها الجائحة، ويستطيع أن يفعل ذلك مرة أخرى لتقوية أمنه. -مصادرة الأصول: لقد تناقشت واشنطن وشركاؤها الأوروبيون لأشهر حول استخدام 50 مليار دولار من الأرباح المستقبلية لأصول الدولة الروسية المجمدة، ومعظمها يوجد في أوروبا، من أجل دعم أوكرانيا وإعادة إعمارها. وهذا مبلغ هزيل. وبينما يتجادل المحامون حول مصادرة الأموال الأساسية، وحجمها 300 مليار دولار، يمكن لروتي أن يحاجج بأن القيام بذلك قرار سياسي وليس قراراً قانونياً، وهذه هي اللحظة المناسبة لكي تُظهر أوروبا عزماً وتصميماً. -أوكرانيا: إحدى المسائل المحورية في أي مفاوضات سلام لإنهاء الحرب في أوكرانيا ستكون ضمانات أمنية لكييف، تشمل سيادتها والأراضي الخاضعة لسيطرتها.
وهذا سيتطلب دعماً مالياً وعسكرياً مستمراً، يموّل جزئياً من خلال التدابير المذكورة أعلاه، وربما قوة حفظ سلام يقودوها الأوروبيون بعد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار. وقد لا يرتدي أفراد قوات حفظ السلام شارات الناتو على الكتف، غير أن روته يستطيع مع ذلك لعب دور في إقناع القادة الأوروبيين. وكلما تم الإسراع في إرسال هذه الإشارة إلى الإدارة الأميركية القادمة، كان ذلك أفضل. -الاستراتيجية: قد يرغب ترامب في تسريع تحويل تركيز واشنطن من أوروبا نحو الصين.
ولهذا سيتعين على روته أن يوضح أن الأمرين مترابطان، ليس فقط لأن الصين أصبحت حليف الكرملين الأساسي وسوقاً لصادرات الطاقة، ومورداً للمكونات الدفاعية الحيوية مثل الرقائق الإلكترونية. والمرحلة الأخيرة من الحرب في أوكرانيا سترسل إشارةً للصين عن عزم واشنطن أو عدمه. وختاماً، هناك تفاؤل في الناتو بأن روته هو الرجل المناسب لإبقاء واشنطن في خيمة الناتو، والأمل هو ألا يكون ذلك مجرد ضرب من ضروب التفكير الرغائبي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»
*صحافي أميركي – بروكسيل