يتجاوز الحديث عن الهوية الوطنية في عصر الذكاء الاصطناعي فكرةَ الحديث التقليدي، فمنذ تطورت التكنولوجيا، وظهر الذكاء الاصطناعي، ومنظومة الحياة كلها تسير نحو التغيير الجذري، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من حياتنا اليومية، ولا سيما في ظل اشتباكه مع مفاهيم المواطنة الافتراضية، والعولمة الإلكترونية، التي لم تعد مجرد تنظير فكري، أو رؤية مستقبلية، بل أصبحت واقعاً ملموساً على الأرض.
وفي ظل هذا الواقع الجديد، وتغلغل الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، تصاعدت تساؤلات استشرافية بشأن مستقبل الهوية الوطنية في هذا العصر، وهي هوية تمثل عمق الانتماء والخصوصية الثقافية لكل فرد ومجتمع، وتواجه اليومَ تحديات جديدة تهدد بانحسارها، أو انصهارها في موجات العولمة الرقمية.
وهكذا فإن السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: أيهما سيذيب الآخر أو سيحتويه، الهوية الوطنية أو الهوية الافتراضية؟ ومع ذلك فإننا لا نقف اليومَ أمام تساؤلات فلسفية، بل أمام استراتيجيات تتطلب إجابات مدروسة لتحصين هويتنا، وضمان أن يكون التطور التكنولوجي في خدمة الهوية الوطنية لا على حسابها.
وتواجه الهوية الوطنية، في تفاعلها مع الذكاء الاصطناعي والهوية الافتراضية، تحديات عديدة ومهددة، من أهمها:
الذوبان الثقافي: فمع تزايد تغلغل الذكاء الاصطناعي، والهوية الافتراضية، ووسائل التواصل الاجتماعي، تتزايد أيضاً سيطرة المحتوى الأجنبي على الهوية، وتفاقم تأثير الثقافة العالمية فيها، وتدفق مفاهيم وأفكار مختلفة من ثقافات عديدة، بل متباينة، ما قد ينعكس سلباً على الهوية الوطنية، والتماسك الثقافي للمجتمع، وربما يؤدي إلى تفكك الهوية الوطنية.
المواطنة الرقمية: في ظل انتشار المواطنة الرقمية يتزايد التفاعل مع المجتمع العالمي عبر الإنترنت، وقد يؤدي ذلك إلى تضاؤل مفهوم المواطنة التقليدية والانتماء إلى الوطن، إذ يصبح الأفراد أكثر ارتباطاً بالشبكة العالمية من ارتباطهم بمجتمعاتهم المحلية.
تغير القيم الوطنية وفقدان الخصوصية الثقافية: وهو ما يعد تحدياً عميقاً، إذ يتوسع الذكاء الاصطناعي اليوم في استخدام تحليل البيانات، وتحديد توجهات الجمهور، ويفتح ذلك المجالَ للتلاعب بالرأي العام، والتأثير في القيم الوطنية، عن طريق خوارزمياتٍ تسوِّق أفكاراً وأيديولوجيات قد لا تتوافق مع الهوية الوطنية.
تراجع حضور اللغة العربية: يعلم المتابع لخوارزميات الذكاء الاصطناعي أنها تدعم المحتوى الإنجليزي أكثر من العربي، ويسهم ذلك في تراجع وعي الأجيال الأصغر سناً باللغة العربية، وقد يسبب قطيعة بين الأجيال الناشئة وثقافتها وهويتها الوطنية، بسبب فقدان التواصل مع الموروث الثقافي.
ولا شك في أن القائمة تطول، ولكني سأكتفي بما تقدَّم دليلاً على أهمية إيقاظ وعينا في مواجهة التحديات التي تعصف بهويتنا الوطنية في ظل النمو المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وشبكات التواصل الاجتماعي، والتغير المُحتمَل في القيم الوطنية والأخلاقية الراسخة في ضمير المواطن الإماراتي، ما يتطلب من المجتمعات الوطنية تطوير استراتيجيات لحماية القيم التي تعزز الهوية الوطنية، وتدعم المحتوى المحلي، وتشجيع استخدام التقنيات في إطار يحافظ على الهوية الوطنية.
ومن الضروري أن ندرك جميعاً أهمية بناء وعي مستقبلي شامل بالتكنولوجيا، ليس بشأن استخدامها فقط، بل بشأن الأثر العميق الذي تتركه على هويتنا الوطنية. وعلينا أن نعي كذلك أن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا ليسا أداتين مجردتين نستخدمهما فقط، بل قوتان تشكلان حياتنا، وطريقة تفكيرنا وانتمائنا، وعلينا أن نضع في الحسبان أيضاً حجم الأثر الذي يمكن أن تحدثاه في الأجيال المقبلة، ولا سيما على صعيد الهوية.
وبناءً على ذلك، فإنني أدعو جميع مكونات المجتمع إلى التعاون على تحقيق رؤية قيادتنا الحكيمة، لبناء مستقبلٍ يوازن بين الاستفادة من التقدم التكنولوجي والابتكار، وبين المحافظة على خصوصيتنا الثقافية وتراثنا الوطني.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذة زائرة بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذة زائرة بجامعة الإمارات العربية المتحدة