ربما تولّد كل أزمة فرصة مواتية لإيجاد حلول أو اقتراحها. هذه الأيام العصيبة تعيدنا لعددٍ من المفاهيم الفلسفية والسياسية. لو تأملنا في هذا الصراع الدائر سنجد أن ثغرته الرئيسة غياب مفهوم الدولة. من دون هذا التأسيس تتحول الجغرافيا إلى غابة، وهذا ما يسميه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في كتابه «اللفياثان» بحالة الطبيعة أن يتحوّل الإنسان إلى ذئب على أخيه الإنسان. مع تأسيس كل دولة تصحبها مجموعة من القيم والأسس والمفاهيم والأعراف، فهي التي تحرس المعاني المجتمعية والسياسية والأمنية، ولولا هذا التأسيس الذي يقوده الحكماء لتحولت كل الجغرافيا إلى ركام ورمادٍ وغبار. والناس يتأقلمون مع النظُم المرعية، والحياة المدنية، بينما ينفرون من حقب الحروب ويصرخون، هذه هي الطبيعة العادية الأصلية.
وبما أن التقديرات البحثية والسياسية تشير إلى أن الأزمة في الإقليم مستمرة، فإن لزاماً علينا الرجوع إلى الأساس الإشكالي الذي قاد إلى هذا المعنى السياسي الخاطئ، وألخّصه بغياب مفهوم الدولة، مرّ زمن على تحجيم الدولة باستبدلات أيديولوجية محضة كشعارات الأمة، أو القومية، وأثبتت التجربة السياسية أن من سار على مفهوم الدولة والتأسيس والقانون هو الناجي من أي تفجّر أو تصدّع أو صراع.
من أهمّ ما يمكن تدريسه للنشء مفهوم «العقد الاجتماعي»، فهو أساس القول حين نتحدث عن مفهوم الدولة بالمعنى الفلسفي والسياسي، منذ القرن السابع عشر عند هوبز، وإلى القرن العشرين عند جون راولز، وهو الأساس في التضابط الاجتماعي، ذلك أن هذا المفهوم يمكن تلخيصه بأن الحاكم هو من يقدّر الأمور ويزنها، والعقد الاجتماعي كما يعبّر روسو هو نظام من التنازل البيني بين الأفراد، تنازل بين العموم عن حرياتهم التي تتعارض مع حريات الآخرين في المجال العام هكذا ألخّص قوله.
حين تغيب الدولة يحضر الشر، هكذا كتب هوبز بقوله:«إن الحرب الأهلية ليست إلا تجسيماً للحالة الطبيعية، ولذلك فالناس جميعهم، بمن فيهم القائمون على الدين، يخضعون لرغبة الاقتدار نفسها، التي تدفعهم إلى طلب أسباب الاقتدار بالبحث عن التسلط على أجساد الناس وأرواحهم».
إن الأحلام الكبرى التي تداعب خيال الجموع لم تنجح في طرح أسئلة مصيرية تتعلق بمعاني تشكل الفشل، وهي تستبعد التغيير الفكري والديني الذي يصنع التغيير الكلي تلقائياً، إذ تدبّ دماء التغيير المتدرج في عروق المؤسسات لتنتج واقعاً مختلفاً، لم تطرح بعد أسئلة مصيرية من أجل الخروج من المآزق الصاعدة، والأزمات والحروب المتلاحقة، والتي تنتج أزماتٍ، وترسّخ لضغائن ستمتدّ لأجيال من دون تسبيبٍ واضح.
الخلاصة، إن كل أفولٍ للدولة يصحبه انهيار في شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع، وبين المجتمع كله والقانون. إن انعدام إمكان التعويل على إبرام أي تعاقدٍ مدني مزمع بين أي فردٍ وآخر، وبين أي مؤسسةٍ وأخرى، يعيد الناس إلى حالة ما قبل المجتمع. لنقرأ تجربة دول الخليج كيف نجحت بتأسيس مفهوم الدولة، وربط الناس مع بعضهم والتأسيس لتنميةٍ شاملةٍ وحيوية، إنها أفضل تجربةٍ في المنطقة على الإطلاق، وهذا ليس على سبيل الإنشاء، بل تثبته النتائج والأرقام.
*كاتب سعودي