يستدل مِن تطور الحرب الأوكرانية المستمرة منذ نحو 32 شهراً، والحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان التي دخلت سنتها الثانية، أن حروب القرن الـ21 حروب مدمرة بامتياز، إذ تستعمل فيها أسلحة حديثة ومبتكرة بهدف تجريبها من جهة أولى وبغرض تسويقها تجارياً من جهة ثانية، حيث يَبرز الهدف الأكبر لهذه الحروب، وهو إنماء «اقتصاد الحرب»، لا سيما لدى بعض الدول الكبرى المصنِّعة، في ظل تداعيات الركود الاقتصادي والتراجع المالي والنقدي، فضلاً عن تراكم الديون وفوائدها المرتفعة.
وتشتد المنافسة بين الدول على تعزيز قدراتها الدفاعية والتكتيكية، وسط بيئة تتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار، خصوصاً أن هذا التوجه يعكس التحديات الأمنية المعقدة التي تواجهها هذه الدول، والتي تجعلها تعيد تقييم استراتيجياتها العسكرية، وتقوم بتحديث معداتها ونظمها الدفاعية بشكل مستمر. وتشير أحدث المعلومات إلى ارتفاع معدلات الإنفاق العسكري في العالم بنسبة 7 في المئة، لتصل 2.4 تريليون دولار العام الماضي، بزيادة سنوية هي الأكبر منذ 15 عاماً.
ويبرز دور الولايات المتحدة كأكبر مستثمر في مجال الصناعات العسكرية. وقد وقّع الرئيس جو بايدن في أبريل الماضي حزمةَ مساعدات عسكرية بقيمة 95 مليار دولار لتمويل كل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وسمح قانون تفويض الدفاع الوطني الأميركي لعام 2024 بإنفاق عسكري يبلغ 886 مليار دولار. وتستحوذ الولايات المتحدة على ثلث الإنفاق العسكري العالمي بقيمة فعلية تصل 916 مليار دولار، متصدِّرةً قائمةَ المنفقين على صفقات السلاح، وقد وصف تقرير«هارفرد بزنيس سكول» ميزانية التسلح الأميركية بأنها «الميزانية الشبح» التي تغذي الحروبَ عبر العالم.
وفي هذا السياق، تشهد العلاقات الدولية تسارعاً تدريجياً في الطلب على الأسلحة. وهناك مجموعة من أكبر خمس شركات أميركية سبق أن حصلت على عقود من وزارة الدفاع (البنتاجون) بقيمة تتجاوز 118 مليار دولار. وبالنظر إلى سوق أسهم الشركات المصنّعة، فقد زادت شركة «لوكهيد مارتن»، وهي أكبر شركة سلاح في العالم، عائداتها بنسبة 54.86 في المئة العام الماضي. وارتفع سعر سهم شركة «رايثيون» بنسبة 82.69 في المئة، وهي ثاني أكبر شركة أسلحة، كما أنها الشركة المصنِّعة للقنابل الخارقة للتحصينات المحظورة في المناطق ذات الكثافة السكانية. أما شركة «جنرال ديناميكس»، التي تنتج القنابل المستخدمة في عمليات الاغتيال، فقد ارتفعت أسعار أسهمها بنسبة 37 في المئة.
وتأتي هذه التطورات، مع الأخذ بالاعتبار أن الوقائع التاريخية أثبتت وجود ترابط قوي بين الحروب والتهديدات، والصناعة الدفاعية، وقوة الولايات المتحدة. وقد سبق للصناعة العسكرية الأميركية أن ساهمت في هزيمة الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية، وشكل ازدهارها خلال فترة ما بعد الحرب عنصراً أساسياً في استراتيجية أميركا العالمية. ولذا يرى الأميركيون أن ضعف صناعة الدفاع، يعني ضربَ العمود الفقري للاقتصاد الأميركي وتقويضَ قوته.
وإذا كانت حصة صادرات الأسلحة الأميركية قد بلغت نحو 40 في المئة من إجمالي صادرات العالم في هذا المجال، فإن حصة أوروبا لا تقل عن 33 في المئة. ومن هنا تبرز أهمية صادرات الأسلحة الفرنسية التي زادت بنسبة 47 في المئة خلال الفترة بين عامي 2019 و2023، وأصبحت فرنسا ثاني أكبر مصدِّر للأسلحة في العالم، وارتفعت حصتها من 7.2 في المئة إلى 11 في المئة. ولذا جدد الرئيس إيمانويل ماكرون دعوتَه لشركات الصناعات الدفاعية إلى الانتقال بسرعة نحو «اقتصاد الحرب»، لتعزيز الإنتاج والابتكار، محذِّرا من أن الاضطرابات التي سببتها الحرب في أوكرانيا، وإعادة التسلح على مستوى العالم، تتطلب جهداً «مستداماً» من جانب صناعة الدفاع لإنتاج المزيد، وبأقصى سرعة ممكنة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية