تعتبر فكرة «المواكبة»، إحدى أهم الأفكار التي تقود المرحلة وتعلوها كعنوان رئيس في مختلف المجالات التي يصبو الإنسان للارتقاء بها، أو إحداث تقدم يساير معطيات الحياة الواقعية التي يعيش في إطارها ويتفاعل مع محتوياتها.

وفي خضم ما يواجه المجتمعات الإنسانية على اختلافها من مستحدثات متسارعة التغيير والنمو في مختلف المجالات وعلى رأسها على المجال التكنولوجي والتقني، فإن كل أطراف وقضايا الوجود الإنساني التي ارتبط تطورها بالتكنولوجيا المتغيرة، تصبح بشكل منطقي بحاجة إلى مواكبة توازيها بالقوة والمتطلبات التي تضمن لها الاستمرارية. والسؤال الذي يطرح نفسَه في هذا السياق يتعلق بكيفية بناء المنهج الحاكم لطبيعة المواكبة ومستواها وخصائصها، لا سيما في ظل التنوع الغزير والحاجة الكبيرة لإحداث إصلاحات معمقة وسطحية في كل المسارات الموضوعة تحت عدسة مجهر التغيير والمواكبة. وحتى نستطيع الوصول لنقاط مشتركة جامعة تمكِّن الإنسانَ من الابتعاد عن المساحات الضبابية والدلالات غير الواضحة في رحلته نحو «الأفضل» و«الأكفأ»، يتعين أن يبني على إدراك يفرِّق بين أنواع المعرفة، ويسلط الضوء بشكل خاص على المعرفة الواضحة، والمعرفة الضمنية، وهذا لا يتداخل مع الخطوات البنيوية الأولى لتطبيق أي مشروع إجرائي، بل يُعنى بالمساحات «النوعية» حيث يتجاوز الإنسان مستوى الخطط النظرية المجردة، وينتقل للإمعان في طبيعة بنيتها وكنه منطلقاتها، الأمر الذي يعني القدرةَ على توصيف دقيق للحالة المعرفية حول أي من القضايا والمجالات، واستشراف ممنهج يُبنى على كل شيء إلا العبث أو الصدفة.

أما فيما يتعلق بما نمتلكه اليوم من المعرفة الواضحة، فهي تعلو قمةَ الهرم، وبخاصة في عصر التكنولوجيا الأخطبوطية التي جعلت من المعلومة أكثر «السلع» توافراً وإتاحة، وبالتالي فهي، وبالرغم من أهميتها، إلا أنها لا تعد محور التمييز والكفاءة، وذلك بسبب سهولة الوصول إليها والقدرة على توفيرها بأقل الإمكانيات وأبسط الجهود وأقصر المُدد الزمنية، وبالتالي يمكن نعت الوقت الذي نعيش فيه بأنه «زمن وفرة المعارف الواضحة». وبالنظر إلى النوع الآخر للمعرفة، وهي المعرفة الضمنية، فيجب الوقوف مطولاً عليها، حتى نستطيع فهم الماهية التي تمكّن العقل الإنساني من تحقيق المواكبة الفعلية فيها، وبخاصة أنها تمثل «سلة الخبرات» التي أُضيفت لها «اللمسة السحرية» من حيث استحالة تشابهها بين فرد وآخر، فهي تتعلق بكيفية تكوين الاتجاه المعرفي والمسار الفكري، ونتاج التفاعل الإدراكي والحسي الذي يختلف بحسب مستوى الخبرة والمجتمع المحيط والعوامل التنشيئية، وغيرها من المؤثرات والتفاعلات المرتبطة بالتحليل الذهني. والمعوّل عليه اليوم ليس المعرفة الواضحة، بل المعرفة الضمنية ذات التأثير النوعي، ولذا نجد أن هذه المعرفة الضمنية تتربع على عرش «كنز المستقبل»، ومن خلالها يمكن أن يجد الإنسان مفتاح الحل لأحجية طال تفكيره فيها.

لكن كيف يمكن للإنسان تحقيق ذاته بامتيازٍ يجعل منه مختلفاً - بالمعنى الإيجابي - في عصر «زخم المعلومة» وتعدد مصادرها؟ إن هذا لا يكون إلا من خلال تكوين معرفة ضمنية ثمينة في خبرتها الواسعة مترامية الأطراف، وعبر الانتقال من مستوى الوعي إلى مستوى الملكة والإدراك وامتلاك المهارات الذهنية مثل التحليل والتفسير، بغية امتلاك القدرة على تكوين وجهة نظر نقدية متزنة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة